الثلاثاء 23، إبريل 2024
10º
منذ 4 سنوات

الكمامة تتفوق على القنبلة الذرية والغواصة النووية

الكمامة تتفوق على القنبلة الذرية والغواصة النووية
حجم الخط

شبكة وتر-تفقدت وضع الكمامة، وأعدت تعقيم يدي، ثم ترجلت من السيارة وخطوت صوب "المناره". رأيت قليلاً من الناس مقارنة بالاكتظاظ الذي كانت تشهده الشوارع والأسواق وقت الظهيرة قبل كورونا.

توجهت إلى "صراف" لأبدل بعض النقود، استوقفني شاب أمام الباب، وناولني علبة التعقيم، سلمته النقود وعاد بعد دقيقتين بالعملة الأخرى وعلبة التعقيم. أنهيت مهمتي الأولى، ومشيت مسرعاً إلى البقالة متمنياً ألا أقابل أحداً خلافاً للأيام السابقة عندما كنت أتوقف لأسلم على صديق أو أجيب عن أسئلة عابرة في شتى المواضيع من أناس يقتنصون على عجل بعض العبارات التحليلية في السياسة والاقتصاد والثقافة من كاتب وإعلامي يألفونه منذ سنوات طوال.

ناولني صاحب البقالة علبة التعقيم وودعني بها، قبيل أن أحمل أغراضي وأهم بالانصراف، والموقف ذاته تكرر مع الفران والصيدلاني.

في الطريق شاهدت سيارة خضار وفاكهة، وفيها كمية من البطيخ، وأنا الذي ينتظر البطيخ من الموسم إلى الموسم، ليصبح غذائي الرئيس مع الجبنة في فصلي الربيع والصيف. استعذت من الشيطان، وطردت فكرة البطيخ من رأسي، معتذراً له في سري عشرات المرات، فقد خشيت أن يكون المتطفل كورونا قد " تشعبط" على البطيخة من الخارج ونصب كمينه في انتظار الفريسة.

عدت إلى البيت، خلعت حذائي قرب الباب الخارجي، ووجدت زوجتي تسلم علي بعلبة التعقيم، وتقذف بالأكياس المحمولة من السوق في سلة المهملات الخارجية بعد أن أفرغت ما في داخلها، لتستقر الأغراض في المطبخ وتخضع لعملية استحمام ودعك. أما ملابسي التي خرجت بها فقد استقرت بسلام في الغسالة، في حين غرق البلاط كل البلاط في الكلور ومازال غارقاً حتى كتابة هذه السطور.

حياة أصبحت مفرداتها .. تعقيم .. جل .. صابون .. كلور .. كمامة .. كفوف.. مطهر .. وشك في كل قطعة ملابس خرجت وعدت بها.

كل شيء في دائرة الفحص، حتى القلم الذي أكتب به، جاء ابني الأصغر" إياس" وعطره بالكحول، لكنني على ثقة تامة بأن قلمي المشبع بالتعقيم، لن يكتب إلا لبشرى الصباح، ولغد أجمل وأبهى وأنضر وأنقى.

سيجري قلمي عملية التعقيم الاضطرارية، ليعود ويكتب بماء الورد، فقد اعتاد أن ينثر أملاً وعبقاً، كما اعتاد بستاني أن يكتب بالندى.

تعقيم مرحلي مؤقت لنظل أنا وقلمي نتنسم الحياة، ولأستمر في شم رائحة الورد من الماضي، واستشف رائحة ورد المستقبل، وإن كنت الآن لاأشم سوى رائحة المعقمات المزعجة، لكن هذا إلى حين، فالمرور من الكحول إلى الورد، يتطلب أن نحلم بالعبق حتى نتنشقه وننتشي به في الحقيقة، بعد أن نقف على أنقاض هلاك كورونا.

وحينما أطبق سواد ليل كورونا على الناس المحجورين في بيوتهم، أمضيت ليلتي متنقلاً بين القراءة والكتابة.. قرأت وكتبت حتى شقشق الفجر.

أعدت قراءة قصص ونصوص كتبتها قبل أكثر من ربع قرن، استحسنت بعض المقاطع وكأني اكتشفها لأول مرة. عاتبت نفسي وأنا أقرأ مقاطع أخرى قائلاً:" كيف لي أن أكتبها بهذه الطريقة؟ لماذا لم أقدم هذه الجملة على الجملة التي سبقتها؟ ولماذا أسهبت هنا أكثر مما ينبغي ؟ ... .."

كانت نصوصي في تلك الفترة أكثر عنفواناً ووضوحاً، ارتباطاً بخشونة المراحل السابقة بما فيها من اعتقالات، قبل أن تصبح نصوصي الأدبية من حيث اللغة أقرب إلى اللغة الشعرية التي خلعت خشونة اللفظ، لكن لا أظنها خلعت مضامينها، فأنا لست من أنصار نظرية الفن للفن.

وأعترف أنه من حيث الأسلوب والحالة النفسية والتوتر والشد العصبي، فإن الكتابة في الاعتقال تختلف عن كتابة الحياة الأسهل في الخارج، أوعن الكتابة الأكاديمية المؤطرة بالضوابط والمنهجيات كتلك الدراسات التي أنتجتها ونشرتها في العقدين الأخيرين.

قرأت وكتبت وتأملت وسرحت ونقدت واسترجعت وفرحت وحزنت وتساءلت ثم تساءلت عن ماهية المحطة القادمة ما بعد كورونا؟!!

وما إن بانت ملامح الصبح حتى غادرت مكتبي وتوجهت إلى المطبخ لإعداد كوب من الشاي. ومن الشرفة رحت أتأمل ملامح وجه الصبح، ربما لأقرأ بعض الأخبار الاستشرافية.

قلت للصبح: " لقد انجلى الليل مفسحاً في المجال ليوم آخر من أيام كورونا، ترى كم سننتظر لكي نشهد انجلاء الليل عن صبح بلا وباء؟ ".

قال الصبح مدارياً ابتسامة ظهرت واختفت فجأة: " سيعود للصبح صبحه حينما ينهض الناس في بلادكم، بل في المعمورة بأسرها ويغسلوا وجهي بالتباري في احترام إنسانية الإنسان".

عدت إلى غرفة مكتبي وأنا أفكر في حديث الصبح، لعلي استوحي من حكمته مدخلاً لعمل أدبي، فأنا أكتب الآن بقلم الصحفي وليس بقلم الأديب، لأن القلم الأول أكثر سرعة وتفاعلاً، في حين أن القلم الثاني( قلم الأديب) يحتاج إلى وقت واختمار فكرة وحسٍ خاص.

وأعترف أن تجربة الكتابة من وحي تداعيات كورونا ستكون مختلفة، على اعتبار أن هشاشة هذا العالم باتت لاتصدق، فقد استثمر الكبار الجشعون في النووي والغواصات الذرية بأنواعها، وتجاهلوا صحة الإنسان، ليفيقوا على أنفسهم وهم يبحثون عن كمامة .. مجرد كمامة... عجباً لهذا الانحطاط