تاريخ النشر: 2018-03-31 12:40:52

سحرُ المسرح يحاولُ فكَ لغز "من قتل أسمهان؟"

سحرُ المسرح يحاولُ فكَ لغز

شبكة وتر- كتب خضر برهم - أجملُ الاحداثِ هي التي تحدُثُ دونَ تخطيطٍ مسبقٍ ودونَ مجهود، والاهمّ دون سقف للتوقعات، تلك الأحداث التي تبقى عالقة في البال وتترك بسمة على الوجه وفي القلب. تترك نفسك منساقاً مع الاصدقاء وإذ بك في اروقة المسرح الوطني الفلسطيني "الحكواتي"، وعلى أحد مقاعده يحيط بك الجمهور الذي ملأ المكان، لتشاهد مسرحية كنت اطلعت على صور عرضها الافتتاحي، وقرأت ردود أفعالٍ اولية وتركتها تثير السؤال الذي لم يجب عليه احد لأكثر من سبعين عاماً .... "من قتل أسمهان؟ " وهكذا تنخرط على مدار ساعتين مع طاقم العمل والجمهور لمحاولة فك هذا اللغز.

تنطلق الاحداث على خشبة المسرح الخالية من أي قطعة ديكور، بفوضى بائعي الصحف وهم يصرخون بتلك العناوين التي صدرت يوم مقتل أسمهان، وتبدأ من تلك اللحظة عملية السرد للقصة. لقد تمكن سيناريو العمل أن يكون البطل بامتياز،  فقد استطاع أن يقدم رؤية شاملة للحدث الرئيس "مقتل اسمهان" بطريقة كوميدية واستناداً للاحداث التاريخية، وهذا ما أكسبه قوة اضافية فقام بتقديم جميع المشبته بهم أمامنا ولم يقم بتجميل الحقيقة أو الانحياز لطرف من الأطراف، لقد طرح المعلومات أمامنا بطريقة كوميدية أحياناً، وجادة احياناً اخرى، تاركاً الحكم للمتفرج.

فمن السائق الخاص بأسمهان إلى أزواجها فالمخابرات البريطانية فأم كلثوم والختام مع شقيقها، استطاع السيناريو أن يجوب في هذه الشخصيات والجهات ويقدم كل واحدة منها على حقيقتها وكما هي ... وعندما أقول كما هي فعليكم مشاهدة شخصية "أم كلثوم" لتعرفوا ما أقصده بذلك، لقد أضحكنا هذا المشهد كثيراً، لكنه نجح في تقديم شخصية "الست" كما هي ولم يسعَ لتقديسِها كباقي الاعمال التي شاهدناها في السنوات الاخيرة.

لقد أحدث استخدام اللهجة المصرية لسرد القصة مفاجأة جميلة لأنها أعطت قوة أكبر ونقلتنا جميعاً الى تلك الفترة، لكنها في نفس الوقت كانت تحدياً لأبطال العمل الذين تعاملوا معها بشكل جيد جداً رغم بعض الهفوات هنا وهناك، لكنها لم تقلل من الجهد المبذول والحرفية الكبيرة لكل من: منى حوا، عزت النتشة، فراس فراح، نضال الجعبة، إيفان أزازيان ومحمد باشا، فكل واحد منهم استطاع أن يلمَعَ بطريقة رائعة، فقدموا أنفسهم لنا متمكنين من أدوارهم وأدواتهم.

وهنا يجب الاشادة "بمنى حوا"، فكان اختيارها لأداء الشخصية الرئيسية "ضربة معلم"، بخلاف أدوارها المتنوعة التي قدمتها خلال العرض من ضابطة إلى ممرضة، فقد تمكنت من تقديم "أسمهان" بإتقان كبير، وأمتعتنا ايضاً بصوتها الجميل وغنائها الحي المتمكن الذي استطاعت أن تحافظ عليه حتى وهي تؤدي الحركات الراقصة التي صممتها "سمر حداد كينغ"، وأداها فريق العمل بصحبتها بإجادة عالية.

اما "عزت النتشة " الذي لم يغادر خشبة المسرح إلا لثوانٍ معدودة طوال مدة العرض، فقد كان رائعاً، لقد كان كالشعلة على الخشبة، تنقل بين جنباتها، وتفاعل مع الشخصيات وأشرك الجمهور وأضحكه، وقام بإيصال كل التفاصيل كبيرها وصغيرها بحرفية عالية، واستطاع أن يكون المحرك الرئيسي للعمل.

فيما استطاع كل من "فراح" ، "الجعبة"، "أزازيان" و"باشا"، الذي لعب كل واحد منهم أكثر من شخصية أثناء العرض، استطاعوا إكمال جماله، فلا يمكن أن تنسى الشخصيات التي قدموها باتقان عالٍ، ولا أن تتخيل العرض دونهم بأدوار الملك فاروق أو الضابط البريطاني أو أم كلثوم، كل واحد منهم لمع وأكمل هذه اللوحة الفنية، لذا، يجب الاشادة بسرعتهم وبإيقاعهم العالي.

لا بد أيضاً أن نتوقف أمام جمال الأزياء التي صاحبت العرض، سواء لأسمهان التي ألبسها "حمادة عطالله" فساتين رائعة، أو حتى باقي الشخصيات من بائعي الصحف إلى جنود وأزواج سابقين، فقد كانت ملابسهم تطابق تلك المرحلة الزمنية، وكانت متقنة وجميلة للغاية.

أما الديكور والاضاءة والتقنيات الخاصة بالعمل، التي نفذها كل من "رمزي الشيخ قاسم، و"عماد سمارة"،  فكانت متميزة، فالديكور والاهتمام بتقديم الطابع الذي رافق مصر في تلك المرحلة كلها جعلت العمل أكثر واقعية، وأتى ذلك بمصاحبة الإضاءة التي زادت من جمالية العمل.

مخرج وكاتب العمل "أمير نزار الزعبي"، استطاع أن يخرج أفضل ما في طاقم العمل مستنداً إلى نص قوي وأحداث حقيقية، وما يضيف قوة للعمل هو اختياره أن يعتمد على الكوميديا لرواية هذه القصة، وهو ما جعل الجمهور يتابع العمل بأريحية كبيرة، وبضحكات مستمرة، هذا بالإضافة إلى جمالية المشاهد التي اختار خلقها، واعتماده على المجهود الجماعي بتغيير الديكور والغناء والإيقاع السريع لافراد العمل، كانت نقطة قوة اضافية، واستطاع أن يدمج كل العوامل المتوفرة لتقديم عمل متميز.

تطرح المسرحية منذ بدايتها السؤال الاهم: "من قتل أسمهان؟"، ولكن هل أجاب العرض عن هذا السؤال؟؟ بالطبع لا. لقد قدم لنا كل المشتبه بهم أمامنا وطرح كل الحيثيات والتفاصيل أمام الجمهور، وترك لكل شخص حرية اختيار المجرّم من وجهة نظره.

إن الطريقة التي اختار بها "الزعبي" أن يختم المسرحية، فيها شيء من المثالية والكثير من الخيال والذكاء في نفس الوقت، تاركاً الجواب لأسمهان نفسِها عندما أجابت أن قاتلها هو: "مية النيل"، وهو بهذا الحل يُخرج نفسه من مأزق عدم توفر الحل "غير الموجود أصلا".

في هذه المسرحية أنت أمام عرض مختلف عمّا يُقدَم بشكل عام، عرض موسيقي وترفيهي بامتياز، يدعوك أن تتوقف عن العيش في العالم الخارجي، وتغوصَ في عالم "أسمهان" لساعتين من الزمن، وتستمتع بهذا الأداء المحكم.

وأنت تتابع العرض، ستشعر بالفخر لمشاهدة عمل كهذا، لأنّه ببساطة يرفع سقف التوقعات للاعمال القادمة، سواء التي سيقدمها "الحكواتي" أو غيره، ويجعلك تدرك مجددا أن للمسرح سحرٌ لا ينضب.