تاريخ النشر: 2022-01-16 09:55:29

الأسير المريض ناصر أبو حميد في رسالته قبل الأخيرة:‏ أيها الناس ارفعوا أجهزة التنفس عن ارواحكم

الأسير المريض ناصر أبو حميد في رسالته قبل الأخيرة:‏ أيها الناس ارفعوا أجهزة التنفس عن ارواحكم

شبكة وتر- لا يمكن الا ان نسمي الأعوام العشرة الأخيرة بأنها أعوام حصد أرواح الأسرى داخل سجون ‏ومعسكرات الاحتلال الصهيوني، الامراض تزداد والشهداء يزدادون، والقتل الصامت يجري بنظام ‏وتخطيطـ، يختطف الأسرى واحدا واحدا او يتركوا يعانون امراضا مزمنة، استفحلت في أجسادهم ‏شيئا فشيئا حتى تحولوا الى شبه احياء.‏

من يدخل ماكنة نظام السجن الصهيوني يكتشف انها صممت لإبادة الجسد والأفكار واليقين واطفاء ‏جذوة المقاومة، ومن اجل السيطرة على الرمز والمثال الذي يمثله الاسرى الفلسطينيين، هذه الماكنة ‏تعمل بانتظام وبحسابات زمنية تديرها كل أجهزة الاحتلال ابتداء من الجندي والسجان والشرطي ‏وجهاز المخابرات والجيش والقضاة ومجلس الوزراء وأعضاء البرلمان ورجال اللاهوت التوراتي، ‏أنظمة وقوانين تتحكم بكل شيء، شبكة رهيبة متكاملة تستهدف تحويل الأسير جسدا وروحا الى ‏خراب.‏

من يدخل ماكنة السجن الصهيوني تصادر منه انسانيته وكيانيته، تجند كل الوسائل لتدمير طاقاته ‏الحسية الجسدية والنفسية لإخراجه من ساحة المعركة مع الاحتلال، يصبح الأسير في هذه الماكنة ‏صفرا، الوقت ليس له، نومه ومأكله ومشربه وملبسه واحلامه وحركاته وانفعالاته جميعها تحت ‏المراقبة ومبرمجة في هذه الماكنة الضخمة التي تسمى سجن. ‏

السجن ليس جدران تحتجز البشر فقط، السجن قبر عميق يقع في المنطقة الساخنة بين الحياة ‏والآخرة، تموت وتحيا ثم تموت حتى تفقد المعنى وتصبح اسير انتظار ليس له مدى، والسجن يلقي ‏على كتفيك اثقالا من المؤبدات والحديد، وعلى ذاكرتك ضجيجا دائما من الأصوات الخشنة، السجن ‏يمتصك وعيا وثقافة حتى تصبح قطعة من جدار او صدى، والسجن يصدك اذا حاولت ان تحلم او ‏تستعيد من خارج السور حمامة او قصيدة، والسجن يهاجمك اذا حاولت ان ترفع جهاز التنفس عن ‏روحك وتستقبل هواءً آخر من خارج الماكنة.‏

الأسير المريض ناصر أبو حميد القابع في مستشفى برزلاي الإسرائيلي تحت أجهزة التنفس ‏والتخدير في قسم العناية المكثفة، يتحكم هذا الجهاز الآن بحياته الباقية، الجهاز يقرر مصيره ‏ومستقبله، الجهاز يعطي الإشارة لورم السرطان ان ينفجر في رئتيه او يتأخر قليلا حتى تتهيأ مراسيم ‏موت صامتة، الجهاز ينعش السجن في اعماقه ويغلق نوافذ السماء، الجهاز يكتم صوته واشاراته ‏حتى لا يودع أمه الصابرة.‏

الأجهزة الاصطناعية الطبية تغلق عيون ناصر ابو حميد حتى لا يرى شعبا ينتفض، يحطم كل ‏الانابيب الاصطناعية والحواجز العسكرية والاسوار العالية، الجهاز يكبل قدميه ويديه حتى لا ‏تتحرك أفكاره واشواقه من رام الله حتى القدس واللد والجليل والناصرة، الجهاز يحشر جسده في دائرة ‏مغلقة واحدة.‏

الأسير ناصر أبو حميد تحت الماكنة الصهيونية، هذه الماكنة صارت مستعمرة متوحشة، ماكنة فيها ‏كل وسائل القتل والعنف والإرهاب، ماكنة لم تتوقف عن اصطياد واعتقال الناس وزجهم بين لوالبها ‏الحديدية، ماكنة تمارس التعذيب والتنكيل والعزل والجرائم الطبية المنظمة، هناك اياد تحركها، اياد ‏واضحة وأخرى خفية، الجميع يجب ان يكون تحت سطوتها، الصغير والكبير، الشباب والرجال ‏والنساء، ماكنة ترصد اتجاهات القلب الفلسطيني، توقف النبض برصاصة او بحفلة اعدام ميداني، ‏ماكنة فيها مجسّات لكل من يقذف حجرا او يحفر نفقا او يفكر بالمقاومة، ماكنة فيها عواصف نارية ‏من الأوبئة.‏

الأسير ناصر أبو حميد تحت الماكنة الصهيونية، كل الشعب الفلسطيني تحت هذه الماكنة، هذه ‏الماكنة ليس لها اخلاق او نوازع بشرية، لا تفقه بالحقوق المدنية والإنسانية، ماكنة خرساء، اياديها ‏آلية، ماكنة عمياء تشبه المجنزرة او الجرافة او الطائرة الحربية، كل الشعب الفلسطيني في مرمى ‏أهدافها، محركاتها تعمل كلما ازداد سفك الدماء، وكلما قل الهواء والماء، كلما صودرت أراضي ‏الفلسطينيين ونهبت ممتلكاتهم، ماكنة صُنعت للإبادة والطمس والدعس ومصادرة العقل والأرض ‏والذاكرة.‏

الأسير ناصر أبو حميد يكتب في رسالته قبل الاخيرة: أيها الناس ارفعوا أجهزة التنفس عن ارواحكم، ‏لا تصدقوا انها أجهزة طبية، انها أجهزة تستهدف اعدام حقوقكم السياسية وانعاش نظام العبودية في ‏حياتكم، حبة الدواء مقابل التنازل عن الهوية القومية، حبة الدواء مقابل غرفة غاز تسمى الدولة ‏الفلسطينية.‏

أيها الناس الماكنة الصهيونية تجمدنا كضحايا، تعيدنا في نظامها السادي والاستبدادي كي تتحرك ‏فوق جثثنا وعذاباتنا وتنزلنا الى رتبة اللاشيء، بلا قيمة، بلا حقوق قومية، الماكنة هذه النكرة لم ‏تجد سبيلا لتحقيق ذاتها الا من خلال اسقاط كل هزالها وخوائها على الضحية.‏

أيها الناس ارفعوا أجهزة التنفس عن ارواحكم، الجرائم الطبية في سجون الاحتلال تستهدف تحويل ‏أجساد الاسرى الى انقاض ومصادر للآلام والمعاناة، الأسير يصبح اسير اوجاعه طوال الحياة، ‏معاناة وجودية صامتة أحيانا ومتفجرة أحيانا أخرى يحملها الأسير معه وكأنه يحمل سجنه أينما حل، ‏الآم دائمة ومتنوعة.‏

أيها الناس ارفعوا أجهزة التنفس عن ارواحكم، اخرجوا من ماكنة السجن ومن حصار الجدار، تنفسوا ‏هواء البحر والشجر فهناك سحابة قادمة، اخرجوا من هذه الماكنة لتضح المسافة بين الموت والحياة، ‏وينقشع الغموض عن اشلائنا اليابسة، ليكن الاحتلال عبئا على المحتل وليس عبئا على اجسامنا ‏النازفة.‏

أيها الناس اخرجوا من هذه الماكنة، لا تصرخوا لان الصراخ هو مدخل للإقرار بالهزيمة والانكسار ‏ونشوة متهيجة للطاغية، وان كان لا بد من شعار يرمز لدولة الكيان الصهيوني وتاريخها هو هذا ‏الهرم الهائل من جماجمنا ونكباتنا المتوالية.‏

أيها الناس اخرجوا من هذه الماكنة، لستم في غيبوبة يغسل التخدير ادمغتكم او يعطلها او يجمدها ‏في نظام السيطرة وصدمات التدمير الكارثية، استيقظوا وحافظوا على انسانيتكم حتى لا يختزل ‏كيانكم ويستباح بلا حدود تحت رحمة الجلاد وتقنيات الفناء والعزل والبرمجة والضياع خارج الجسد ‏والروح والخارطة.‏

أيها الناس اخرجوا من هذه الماكنة التي تصهرون فيها حتى تذوب ملامحكم، هذه الماكنة ترفع ‏شعار تقليص الصراع وهذا يعني تقليص اعماركم وحياتكم، ابرتهايد من الشمال الى الجنوب، حدود ‏كلها موت، اجسادكم ممزقة، حيزكم الجغرافي والنفسي يشبه مقابر مبعثرة، في كل الاتجاهات مجزرة، ‏وفي كل مكان وفي كل ساعة يرتقي شهيد او شهيدة.‏

أيها الناس اخرجوا من هذه الماكنة، قاتلوا حتى اخر الليل وأول النهار ولا تطلبوا المغفرة، فكل أيامنا ‏عظيمة ما دمنا واقفين هنا فوق صخور ارضنا، عيوننا الى القدس مفتوحة، وقناعتنا ثورة وإرادة لا ‏تعرف التراجع او المساومة.‏

أيها الناس اخرجوا من هذه الماكنة، ان اخذوا جسدي فأجسادكم حية، مروا على والدتي في مدينة رام ‏الله وقولوا لها: يا ام يوسف هناك أرواح في السماء عائدة، خذوا منها دروس الصبر وتعاليم ‏الصلوات الكنعانية، خذوا عاداتها واشربوا قهوتها المرة، في حضنها ربيع نولد فيه ونرجع منه اليها، ‏نعيد للأرض زهوتها، امي اجمل ما خلق الله حارسة ناري الدائمة.‏

سلام اليك يا امي، اطمئني لقد انتصرت بك على دولة الاحتلال وحطمت القوة الظالمة، لا ‏تقلقي، المسافات كانت طويلة ولكننا نعرف كيف تكون الخاتمة، سلام على كل الاسرى الأحباء ‏والأصدقاء، سلام على اخوتي الأربعة، سلام على اخي الشهيد الحي في الدنيا وفي الاخرة.‏