تاريخ النشر: 2022-02-19 08:40:53

الانتخابات البلدية بين العشائرية وتجاوز القائم

الانتخابات البلدية بين العشائرية وتجاوز القائم

شبكة وتر- أعتقد أن المجتمع، أي مجتمع، وأمام انغلاق السُبل، عليه أن يجد مخرجاً آمناً لتواصل جماهيره مسيرتها، وتصل إلى عتبة أكثر رسوخاً، تقف عليها، لتجدّد مسيرتها وتنطلق ثانية نحو أهدافها.. حتى لا تتراكم المشكلات وتتعطّل القدرات، ويجد البعض في العنف أو الخروج أو الانشقاق أو العربدة، وسيلة لإحداث التغيير المطلوب. وأعتقد أن الانتخابات هي الوسيلة الأكثر ضمانة لإحداث أي نقلة إلى الأمام.

وكلّما قُرِع جرسُ الانتخابات، داخل المدن والقرى، أو الفصائل، أو على المستوى الوطني، نرى النُخَب السياسية على اختلاف مستوياتها، عداك عن العشائر، تنهض من غفوتها وتقوم بتجميع الخيوط، مرّة أخرى، في يدها، لإعادة إنتاج نفسها، في وقتٍ يعزف فيه الكثير من الناس عن الانخراط في اللعبة، لأنه يحسّ أن هذه”اللعبة الفصائلية أو العشائرية” ليست حلّاً بل تكرّس الخراب والتشظية! وفي وقتٍ لم يتبقَ فيه من مشروعنا الوطني والاجتماعي غير الاسم والشعارات.

ذلك أنّ مكونات المشروع ليست كلمات، لكنها فعل يذهب نحو ترجمة المشروع ( التنمية، تكريس الرباط، خلق حياة أفضل) إضافة إلى الشقّ السياسي(العودة، القدس، الدولة).

وأعتقد أن النُخب ستصبح حارسة ومكرّسة للأزمات إذا بقيت على حالها.. بل وتُمسي حارسةً للاحتلال، بطريقة غير مباشرة، إذا تمسّكت بمصلحتها الذاتية والفصائلية على حساب المشروع الاجتماعي والوطنيّ. أي أن الانتحابات التي نذهب إليها ، ستكون عملية آلية ميكانيكية وشكلانية، توقِظ العشائرية بمعناها المباشر ، والفصائلي المتزمّت، وتكرّسها، وستُعمّق آليات التآكل الذاتي و “الانقسام”، ولن تُنتِج إلا صيغة أكثر تعقيداً وتركيباً للواقع الحالي المهترئ.

أما إذا ذهبنا إلى الانتخابات باعتبارها آليّة قادرة على إعادة اللحمة الوطنية والاجتماعية، وتُرْهِص لرؤية جامعة وقادرة على إنهاض مؤسساتنا التمثيلية الشرعية على أساس الشراكة، فإنّها ستكون المخرج المطلوب. والسؤال هو: هل سنذهب للانتخابات لنكسر رؤوس بعضنا البعض ، أم لأن الانتخابات استحقاق قانوني ودستوري ومتطلب أساس للتداول السلمي للسلطة، وواحدة من استراتيجياتنا وسبيلنا للخروج من عنق الزجاجة، إلى فضاء مُدْرَك ومُعَدّ وقادر على بعثنا من جديد، لتحقيق ما نستطيعه من أهداف؟

وعلى كلّ حال، نحن في أزمة! وتنشأ الأزمات الإقتصادية والسياسية في حضن المجتمع، بغض النظر عن مكوّناتها وأسبابها، وتؤثّر في بنيته وتشكيلاته، لذلك، لا بدّ من النظر بعمق إلى حالة المجتمع، ونسأل ماذا فعلت به هذه الأزمات؟ وأوّلها الأزمة الوطنية السياسية، أو ذلك الاستعصاء في التحرر الوطني والاستقلال، الذي أدى إلى مشهد ينبيء سطحُه بحالة من التعايش مع الإحتلال أو قبوله، ويتم ذلك في غياب وضوح أي طريق تؤدي للوصول إلى ترجمة الشعارات التي نتداولها في خطابنا السياسي (العودة والقدس والدولة).

وباعتقادي فإن النُخب السياسية جميعها، ومن كلّ الفصائل ،دون استثناء، التي تُعطّل المصالحة والشراكَة، هم المسؤولون عن انتاج هذه الحالة المزرية، لأنهم غلّبوا المصالح الفصائلية والذاتية على المشروع الوطني والمجتمعي. أي كيف نقول إنّنا حركة تحرّر وحماة الدّين الحنيف وجبهات مُمانعة، وإننا “مقاوِمون” و”نحمي القلاع” و”ندافع عن الثوابت” و “لن نترك القدس وحدها”، و”نُغَلِّب المصلحة العامة”.. ولم نستطع إنجاز وحدة وطنية، بحدودها الدنيا، وهي شرط أساس وأرض الفعل الحقيقي الراسخة؟ كيف؟ أي ديماغوجية هذه؟!

ماذا بقي من خسارات مُفجِعة حتى تحرّكنا حساسية الانتهاكات والفظاعات الاحتلالية.. وماذا ننتظر من خرابٍ أكثر من هذا.. لنُؤثِر الوطن على مصالحنا الضيّقة ؟ وهل بهذا الأسلوب “المتفرّق” المتهدّم سنردّ على كل ما يجرفنا ويحملنا نحو الخسارات؟ وهل صيغ العمل المجزوءة الهشّة الحالية التي بين أيديكم، هي التي ستنقذ حالتنا ومشروعنا؟

وقد أتوقّع في أي انتخابات قادمة أن يبحث الناخبون عن قائمة مُغايرة جديدة غير مُلوَّثة.. إذا بقي الحال الوطني الفصائلي ، ببطانته العشائرية، المُشقَّق على وضْعه البائس. وعليه لا بدّ من عملية مُراجعة حقيقية شاملة وجادّة وفوريّة وقاسية، تُنتج ورقة تجمع شتات الأمر والطرائق والأطياف.. إذا أرادت نُخب الفصائل كلها أن تنجو وينجو معها الوطن.

الحركة الوطنية في مفهوم الثورة، تحافظ على نفسها وتدافع عن وجودها وتخوض حروباً من أجل ذلك، عندما تلتزم بحفاظها على خطّها وأهدافها، وليس على ذاتها، خدمة لأفرادها أو للجماعة التي تقودها. وعندما يصبح الحفاظ على الذات (الخاص والفصيل) هدف بحدّ ذاته، وتستبدل به أهداف الثورة، تتحوّل لُحْمة هذه المجاميع إلى ما يشبه العصابة، وتغلّف كلّ مصلحة ذاتية بثوب وطني أو دينيّ أو أيديولوجي! ويصبح المساس بهذا الثوب جريمة وخيانة وشُبهة وخروج عن الخطّ! بقصد أو دون قصد.. ومع هذا، فإن ذلك لن يوصلها إلى برّ الأمان.. وسنرى هذه المجاميع المنفرطة ترقص رقصة المذبوح في قاع الهاوية.

لقد تعرّض الفلسطينيون لأكبر عملية تخريب في وعيْهم الجَمْعي، يسعى إلى إرجاعهم إلى مفردات العشيرة والقبيلة والتقاسم الحمائليّ، ساهمت فيه النُخب السياسية .. ويبدو أن تجلّيات الجَزْر والتراجع في الوعي الجمْعي الفلسطيني بادية للعيان ، وما زالت هناك في المُربّع القَبليّ.

لهذا فإننا مدعوّون لمواجهة ذلك، بعد إدراكه وتفهّمه، ووضع العلاجات الأكثر مناسبة، للبدء بتأريخ جديد، تبدأ مع هذه الانتخابات المرجوّة، لتؤسّس مرحلة معافاة وانطلاقة جديدة.

وإذا كان هدف الانتخابات هو إعادة توزيع “الكعكة” بين القوى المتصارعة، أو بين العشائر،، وتثبيت الواقع المُتردّي، فما الداعي لها؟ بمعنى أن المطلوب هو تشكيل المكوّنات الإجتماعية والسياسية على أساس واحد (وحدة الوطن، وحدة المشروع، وحدة الشعب ،ووحدة الهدف)، ويتم ذلك بشروط وقواعد لهذه الانتخابات، أهمها: اعتراف النُخب السياسية، من كل القوى قاطبة، بأنها وصلت إلى طريق شائك ملتبس، ما يعني ضرورة فتح الطريق لحوارٍ مُختَلِف يُنتج قماشة عريضة قوية تحمل التصوّر الذي نتغيّاه.. وإذا لم يكن لدى هذه المكوّنات ما تقدّمه، فعليها رعاية وحماية الانتقال الآمن لرؤيةٍ قادرة على مواجهة الأسئلة واجتراح الإجابات لها. وبظنّي أن هذا لن يكون، للأسف الشديد.

وتجدر الاشارة في سياق استعراضنا هذا أن نؤكد على أن حركة فتح العملاقة ليست هي من وصلت إلى طريق مسدود، بل النُخب السياسية من مختلف الفصائل، لأن من أهم قوانين حركات التحرر هو أن حركة التحرر (الثورة) لا تُهزَم ولا تنتهي، حتى تبلغ أهدافها، وإن ضعفت أو تراجعت أحياناً، أما الذي يُهزَم فهم النُخَب، التي تبيع الوَهْم، وتشتري الزمن لنفسها، وعندما تغادر قانون الثورة الذي يقوم على قاعدة “ألّا تعايش مع الاحتلال”جنباً إلى جنب “المحافظة على المنجزات الاجتماعية والنهوض بها”.

إننا نعوّل على الوعي الجمْعي الذي يحاول سدّ الفراغ، لكنّ “المستفيدين” سيحاربونه بإدارة ظهورهم وإغلاق أسماعِهم، وبمصطلحات جاهزة مثل (المشبوه، المُخْتَرَق، أجندات…) وأسأل: كيف لفتح وحماس،مثلاً، أن تتوافقا على الانتخابات التشريعية، قبل قرار تأجيلها، وصولا إلى إمكانية توليف قائمة مشتركة؟ ولا تتوافقان على استعادة الوحدة؟مع العلم أن هذا التوافق على تقسيم الكعكة سيلغي معنى وهدف وجوهر الانتخابات،بكل مستوياتها، وسيُعيد إنتاج الوجوه نفسها، وسيشرعن الانقسام ويؤبّده!؟ وكيف لهما ألا يتوافقا على أسماء قادرة على حمل المطلوب في هذه المدينة أو تلك، مع باقي الأطياف الفاعلة؟

أرجو من هذه الانتخابات ، أن تتم ، وأن لا يكون هدفها “توريث” البعض وتمهيد الطريق لمجموعة بعينها وإقصاء آخرين، أو إعادة إنتاج وتقديم الأسماء والوجوه المستهلَكة ذاتها. وأرجو أن يبتعد الجميع المُختَلِف عن المقولات الممجوجة والمفردات السوداء التي تُشيطِن وتُخَوِّن، وعن اللغة النهائية التي تُغْلِق أي إمكانيّة للحوار، وأن نذهب نحو الخطاب الوطني الذي يعلو على الأزمة، وأن تكون هناك جرأة قادرة على فتح الجراح لتنظيفها. ونتمنّى ألا نذهب نحو ما يعمّق التشقّقات. ويا قوم ! استعيدوا الوحدة الوطنية الاجتماعية، إذا لم تستطيعوا إستعادة ما هو أكبر.