تاريخ النشر: 2019-07-18 08:05:59

كل شيء يمضي

كل شيء يمضي

شبكة وتر- سافر إيفان غريفور يفيتش في الصيف إلى بلدة ساحلية حيث منزل والده يقف على تلة خضراء، عبر القطار بمحاذاة الساحل وخلال وقفة قصيرة ترجّل إيفان غريفور يفيتش ونظر للمياه الخضراء المسودة، كانت دائماً متحركة، تفوح منها رائحة الملح الباردة. الريح والملح تواجدا عندما استدعاه المحققون لإستجوابه خلال الليل، كانا هناك عندما حفر قبر لسجين مات خلال نقله، كانا هناك وكلاب الحراس تنبح تحت النوافذ في المعتقل والثلج يتفتت تحت أحذيتهم، البحر كان خالداً، خلود حريته ارتبط بلا مبالاته؛ هكذا بدا الأمر لإيفان،

البحر لم يهتم بإيفان غريفور يفيتش عندما كان يعيش وراء الدائرة القطبية، ولن تهتم أمواجه الجامحة الحرة به عندما يفارق الحياة... "لا" فكّر إيفان... هذه ليست حرية شيء شبيه بالحرية، رمز للحرية... ما أروع الحرية إذا كانت الأشياء التي تشبهها - ولو قليلاً - تبعث في نفس الإنسان كل هذه السعادة. بعد قضاء الليل في المحطة انطلق باكراً للمنزل، كانت شمس الخريف تشرق في سماء صافية، يستحيل التمييز بينها وبين شمس الربيع الصمت حوله موحش، العالم كله توقف، ملاذ طفولته أبديّ لا يتبدل، داست أقدامه على هذه الحجارة الباردة يوماً، عيناه الطفولية حدقت في التلال وتأثرت بجمرة الصدأ الخريفية، استمع لصوت الجدول في طريقه إلى البحر عبر قشور البطيخ وعرانيس الذرة المقضومة وغيرها من فضلات البلدة...

خرج للشارع العام وبدأ بصعود التلة، صوت الجدول من جديد، إيفان غريفويفتش يتذكر صوته، لم يسبق له رؤية حياته دفعة واحدة، لكنها الآن هناك، ممتدة أمامه ولا يشعر بالإستياء تجاه أحد، كلهم، كل الذين نكزوه بأسافل بنادقهم وهم يقتادونه لمكتب التحقيق، الذين عرضوه لساعات الإستجواب الطويلة ولم يسمحوا له بالنوم، الذين تكلموا عنه بسوء في الإجتماعات العامة، الذين وشوا به رسمياً، الذين سرقوا حصته من الخبز في المعتقل، الذين ضربوه، كلهم بضعفهم وخشونتهم، آذوه رغماً عنهم. لقد خانوه ووشوا به ودنسوا سمعته لأنها طريقة نجاتهم، كانوا بشراً، هل أرادوا له المشي إلى منزله هكذا؟ شيخ وحيد وبلا حب؟ لم يشأ الناس أذية بعضهم لكنهم يفعلون ذلك طوال حياتهم، على أية حال، الناس هم الناس، كانوا بشراً، والشيء الرائع المذهل هو أنهم بإرادتهم أو بدونها حافظوا على حياة الحرية، في أرواحهم الفظيعة المنحرفة - والبشرية - في أرواح أكثرهم فظاعة اعتنوا بالحرية وأبقوا عليها حية، أما هو فلم يحقق شيئاً، لم يترك وراءه لا كتب ولا لوحات ولا إكتشافات، لم يبتدع مدرسة فكرية ولا حزباً سياسياً أو تلاميذ. لماذا كانت حياته بهذه الصعوبة؟

لم يعظ ولم يدرس، لقد بقي ببساطة كما ولد: إنساناً، ظهر الجبل أمامه، في الجهة الأخرى من الطريق ظهرت قمم أشجار البلوط، كان يمشي هناك في طفولته، يبحث في الغابة نصف المعتمة عن الشركس والحياة الغائبة: أشجار الفاكهة أصبحت برية، بقايا أثرية لما كان يوماً سياجاً للمنزل، ربما منزله لم يتغير كشوارع البلدة وجدولها؟ سيكون في المنعطف التالي، لوهلة شعر بضوء مبهر يلفّ الأرض كلها، ضوء لم ير له مثيل، خطوات قليلة أخرى، سيرى منزله في الضوء، ستأتي أمه نحوه، نحو ابنها الضال، سينحني أمامها ويداها الشابة ستستريح على رأسه الرمادي الأصلع، رأي أجمات من الشوك والجنجل، لم يكن هناك منزل ولا بئر، أحجار قليلة بيضاء وسط عشب منبرّ، أحرقته الشمس، وقف هنا، شعر رمادي، كتفان مخيان، لا يزال هو، لم يتغيرّ. تعتبر رواية فاسيلي غروسمان هذه من الروايات التي تركت أثراً من الأعمال الروائية الهادفة، فقد كانت من الروايات التي كان فيها غروسمان أكثر إنتقاداً للمجتمع السوفييتي والتي عمل عليها حتى آخر أيام حياته.