خطاب نصر الله: تنصّل أم حكمة؟
شبكة وتر-أثار خطاب حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، ردود أفعال كثيرة بين مؤيد ومعارض ومتفهم ورافض، وسَبَّبَ خيبة أمل للكثير من أنصار محور المقاومة ومحبيه، خصوصًا الفلسطينيين، لا سيما حركة حماس، التي عبر عدد من قادتها قبل الخطاب عن تقديرهم لما قام به حزب الله من فتح محدود للجبهة الشمالية، وطالبوه بالمزيد والمزيد، كما صرح غازي حمد، عضو المكتب السياسي لحركة حماس في مؤتمر صحافي عقد في بيروت، إضافة إلى كل من خالد مشعل وموسى أبو مرزوق، الرئيسين السابقين للمكتب السياسي للحركة، مع الإشارة أن كتائب القسام لم تحذو حذوهم، وسط تقديرات بأنها على تفاهم مع حزب الله.
يريد الفلسطينيون الحريصون على شعبهم وقضيتهم وعلى قطاع غزة تدخل حزب الله والدول العربية والأجنبية، الأمس قبل اليوم، واليوم قبل الغد؛ لوقف المجزرة الجماعية المفتوحة، ولكن الرغبات والأمنيات لا يمكن أن تتحقق إذا لم تبن على حسابات دقيقة، فخوض حرب قبل أوانها قد يؤدي إلى خطأ جسيم أو كارثة من دون ضمان منع استمرار الكارثة الراهنة.
لنضع جانبًا المعسكر المعارض لحزب الله ومجمل محور المقاومة، الذي سيكون ضد الخطاب بحدة أكبر لو أعلن فيه نصر الله الدخول في الحرب، وذلك لسبب بسيط هو أنهم ضد الحزب وخياره والمحور الذي ينتمي إليه، وأن ما قدمه حزب الله من مشاركة وأرواح بلغت حتى كتابة هذه السطور أكثر من 60 شهيدًا، وأدى إلى إشغال ثُلث الجيش الإسرائيلي، وإلى حضور الأساطيل الأميركية إلى الشرق الأوسط الهادفة إلى ردعه ومنع امتداد الحرب، وهذا يعدّ أكبر بما لا يقاس مما قدمه معسكر الاعتدال وأصدقاء أميركا، الذي اكتفى بالشجب والإدانة ومناشدة الإدارة الأميركية بدون طرد السفراء الإسرائيليين ولا قطع العلاقات، وكل ذلك لم يثمر حتى عن تحقيق مجرد هدنة إنسانية مؤقتة.
التصعيد مرهون بمسار الحرب في غزة، وسلوك إسرائيل إزاء لبنان
هناك فرق بين من يقاتل ومطلوب منه المزيد ووعد بتقديمه عندما قال نصر الله إن كل الاحتمالات مفتوحة، مستخدمًا كلمة الغموض مرات عدة في خطابه، وحديثه "لن نكتفي بما نقدمه". والتصعيد كما أكد مرهون أولًا بمسار الحرب في غزة، وبما يمكن تفسيره أن حزب الله يمكن أن يتدخل إذا اقتربت المقاومة، وتحديدًا حركة حماس من لحظة الانكسار، وثانيًا مرهون بمسار الحرب على الجبهة الشمالية، خاصة إذا صعّدت قوات الاحتلال ضد لبنان والمقاومة، فهناك احتمال مهما كان قليلًا لا يمكن إسقاطه من الحساب أن يقوم رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وعدد من القادة العسكريين وصقور البنتاغون الأميركي إلى شن حرب استبقاقية تستهدف حزب الله انتهازًا لوجود هذا الحشد العسكري الأميركي في المنطقة والدعم السياسي الغربي لإسرائيل.
المأخذ الذي يمكن تسجيله على الخطاب أن نصر الله لم يضع مسألة الكارثة الإنسانية التي يتعرض لها شعبنا في قطاع غزة في الحسبان، كما يظهر في عدم وضعها ضمن الخط الأحمر الذي وضعه (عدم هزيمة "حماس" والتصعيد الإسرائيلي على الجبهة اللبنانية).
الفرق بين حسابات العقل والعاطفة
جاء خطاب حسن نصر الله ضمن التوقعات الواقعية المبنية على الحسابات العقلية، ومن الأخطاء التي حدثت أن إعلام حزب الله ساهم في رفع سقف التوقعات من خلال نشر اللقطات التي ظهر فيها وهو يدخل تارة، ويوقع تارة أخرى، ويعطي إشارة الحرب تارة ثالثة، لدرجة أن هناك من قال لتبرير ذلك إن نصر الله غيّر خطابه في اللحظة الأخيرة بعد ورود تعهدات عبر وسطاء بأن الحرب لن تتجاوز خطوطه الحمر، وأنها ستسير بخط السير نحو وقفها بدءًا بهدنة.
المرحلة الحالية مرحلة صمود وليست مرحلة تحرير
علينا أن نقف أمام مسألة إستراتيجية في منتهى الأهمية في حديث نصر الله، وهي أن المرحلة الحالية هي مرحلة صمود وليست مرحلة تحرير، وأن هذه ليست لحظة المنازلة الكبرى، فتحرير فلسطين يتحقق في جولات وبالتراكم وليس بضربة واحدة. وهذا يمكن تفسيره بأن محور المقاومة يمر في مرحلة دفاع أو توازن إستراتيجي ولم يصل إلى مرحلة الهجوم الإستراتيجي؛ أي إنه ليس جاهزًا بعد لمعركة التحرير وللحرب الشاملة، مع الاستعداد الكامل لخوضها إذا فُرضت عليه أو إذا تعرضت المقاومة الفلسطينية للسقوط.
وهذا الأمر يمكن فهمه إذا نظرنا إلى ما يجري على الأرض، وليس فقط لما يقال في وسائل الإعلام التابعة لمحور المقاومة؛ حيث تقوم القوات الإسرائيلية منذ سنوات بتوجيه ضربات ضد أهداف في سوريا بانتظام، يكون من ضمنها مواقع لحزب الله والحرس الثوري الإيراني، ولا يقوم محور المقاومة ولا سوريا بالرد عليها في معظم الأحيان، وهذا لا يمكن تفسيره سوى بأن المحور غير جاهز حتى الآن للحرب الشاملة.
والمشكلة هنا تكبر وأخذت حجمًا أكثر مما تستحق في ظل الحديث عن وحدة الساحات وغرفة العمليات المشتركة، وأن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، وهذا كله يفسر التوقعات العالية عند جمهور محور المقاومة، فالحقيقة أن وحدة الساحات مترادفة مع استقلال الجبهات.
معنى أن طوفان الأقصى معركة فلسطينية 100%
في هذا السياق، نضع حديث نصر الله بأن معركة طوفان الأقصى فلسطينية 100%، وأنه يقدرها عاليًا ويدعمها ويفهم الحاجة إلى إبقائها سرية لضمان نجاحها، ولكن عدم معرفته بها يجعله لم يستعد لعواقبها، وغير مسؤول عنها بنفس مسؤولية من قرر خوضها الذي أجرى كل حساباته على هذا الأساس.
وكان من المتوقع أن تنسّق حركة حماس مع حزب الله على الأقل خوضها هذه الحرب حتى يستعد للمشاركة الكاملة، من دون الدخول في التفاصيل والموعد الدقيق حفاظًا على السرية.
هدف حزب الله وقف الحرب وانتصار "حماس"
دخل حزب الله في الحرب بشكل محدود، ولن يكتفي بما قدمه فيها حتى الآن كما قال نصر الله، بدليل أن الجبهة الشمالية بعد الخطاب اشتعلت أكثر، ويمكن أن تتدحرج الأمور تصاعديًا وفق تصاعد الحرب؛ حيث يتسع مداها، كما حصل من كيلومتر واحد إلى بضع كيلومترات وإلى مسافة أبعد، ومن استخدام القذائف قصيرة المدى إلى استخدام صواريخ أبعد مدى، ولن يسمح حزب الله بهزيمة المقاومة، وحدد نصر الله أن هدفه الأول وقف العدوان، والثاني انتصار غزة و"حماس".
وعلى الرغم من حرص كل من واشنطن وطهران على عدم خوض حرب إقليمية يمكن أن تتحول إلى حرب عالمية، إلا أن هذا يمكن أن يحدث نتيجة خطأ في الحساب، فأي قذيفة أو صاروخ يوقع خسائر كبيرة، خصوصًا في ظل وجود رؤوس حامية في تل أبيب وواشنطن.
هدن بلينكن لإطالة الحرب ومستقبل غزة
ولا يدعم هذا التفسير حول قرب الهدنة التصعيد الذي أخذته الحرب بعد الخطاب مباشرة، ولا يزال سيد الموقف، لدرجة أن أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، جاء وجال في المنطقة وهو يتحدث عن هدن مؤقتة لم يتحقق أي منها، وسط رفض أميركي لوقف إطلاق النار؛ لأنه يساعد حركة حماس على التقاط أنفاسها، وترتيب صفوفها، ولأن الهدنة تساعد إسرائيل على إطالة الحرب؛ حيث تتمكن من تحقيق هدفها بالقضاء على "حماس"، لدرجة أن بلينكن برر أثناء المؤتمر الصحافي الذي عقد في عمان بحضور وزيري خارجية مصر والأردن قصف المستشفيات والمدارس، وتبنى في ذلك رواية حكومة الاحتلال بأن المقاومة تستخدمها دروعًا بشرية، مع أن سلامة معروف، المتحدث باسم حكومة "حماس"، تحدى الحكومة الإسرائيلية وطالب الأمم المتحدة بإرسال لجنة أممية للتحقيق في ادعاءات استخدام المستشفيات لصالح المقاومة. وذهب بلينكن أبعد من ذلك عندما طالب بالتحضير لما بعد الحرب ورسم مستقبل قطاع غزة بما يضمن عزل "حماس" وعدم مشاركتها.
وزراء الخارجية العرب: الأولوية لوقف الحرب ولا للتهجير
طالب وزراء خارجية العرب الذين التقاهم بلينكن في عمان، بحضور أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بوقف الحرب، وجددوا رفضهم للتهجير، وأكدوا أن ما تقوم به إسرائيل ليس دفاعًا عن النفس، واعتبروا أن البحث في مستقبل غزة ليس أوانه، على أساس أن تتوقف المدافع والصواريخ والإبادة أولًا.
وهذا الموقف كرره الرئيس محمود عباس، وإن بصيغ مختلفة، خلال لقائه بلينكن؛ إذ أكد على وحدة الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن عودة السلطة إلى غزة مرهونة بأن تكون جزءًا من مسار سياسي ينتهي بتجسيد الدولة الفلسطينية.
خطأ الدول العربية
خطأ الدول العربية أنها اكتفت بإصدار المواقف السياسية الجيدة والمناشدة والمطالبة، ولم تستخدم أوراق القوة والضغط السياسية والاقتصادية والدبلوماسية التي تملكها، وكانت تستخدم بعضها في ظل أحداث أصغر، فعلى سبيل المثال يمكن القول لإسرائيل إن كل المعاهدات والاتفاقات معها مجمدة إلى أن توقف الحرب الوحشية، لو فعلت ذلك فكل ما أمامنا سيتغير بسرعة وستقف الحرب بسرعة.
أخطاء الرئيس عباس
يتمثل خطأ، بل إخطاء الرئيس عباس في:
أولًا: تبنت السلطة موقفًا حياديًا وانتظاريًا، وكأن الحرب على "حماس" وليست على الشعب الفلسطيني، الذي ظهر في الحديث عن أن منظمة التحرير هي التي تمثل السياسة الفلسطينية، وليس "حماس"، ثم تغيير العبارة لتصبح أي فصيل فلسطيني؛ الأمر الذي جعل بلينكن يكيل المديح للسلطة لأنها منعت فتح جبهة الضفة الغربية بشكل واسع. كما لم يقدم الرئيس على سحب الاعتراف بإسرائيل وتنفيذ القرارات الصادرة من المجلسين المركزي والوطني بخصوص العلاقة مع دولة الاحتلال.
ثانيًا، يطالب الرئيس حتى تعود السلطة إلى غزة أن يكون ذلك ضمن مسار سياسي عنوانه ما يسمى "حل الدولتين"، وهذا جيد لجهة عدم البحث في مستقبل غزة قبل وقف الحرب. ولكنه من جهة أخرى قد يعيد إنتاج المسيرة التفاوضية التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، فالمسار السياسي المطلوب يجب أن يبدأ بالالتزام بمرجعية واضحة وملزمة لكل الأطراف ومتفق عليها منذ البداية، حتى تكون المفاوضات لتطبيق إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة وليس التفاوض حولها، كما حصل خلال عشرات السنين الماضية، التي لم تنته إلى دولة، بل إلى كارثة عنوانها الأبرز تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان وتجذير الفصل العنصري الذي بات دستوريًا بعد إقرار قانون القومية.
حكومة إنقاذ وقيادة انتقالية مؤقتة
لا يكفي أن تردد القيادة الرسمية أن منظمة التحرير هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني؛ لأن هذا صحيح من حيث التمثيل السياسي والقانوني. أما من الناحية الفعلية، فالكل يدرك أنه بعد الانتخابات التشريعية التي فازت فيها "حماس" في العام 2006، وبعد حسمها/ انقلابها على السلطة وخوضها عددًا من المواجهات العسكرية ومعها حركة الجهاد وفصائل المقاومة ضد الاحتلال، باتت "حماس" لاعبًا رئيسيًا لا يمكن تجاهله، وبالتالي من أراد أن تكون المنظمة ممثلًا وحيدًا، قولًا وفعلًا، عليه أن يضم مختلف ألوان الطيف السياسي تحت مظلتها. وهنا، يمكن المسارعة إلى تشكيل حكومة إنقاذ وطني وقيادة مؤقتة لمنظمة التحرير، إلى حين تشكيل مجلس وطني جديد بالانتخابات حيثما أمكن وبالتوافق الوطني حيثما يتعذر إجراء الانتخابات.
ويتقاطع ما سبق مع المبادرة التي قدمها إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، التي تتضمن نقاطًا عدة: تبدأ بوقف إطلاق النار، وتمر بعقد صفقة تبادل أسرى، وتنتهي بإعادة الإعمار، وبمسار سياسي عنوانه إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية بالاستناد إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، كما ورد في الرسالة التي أرسلها هنية إلى تركيا.
إن الإقدام على تشكيل الحكومة والقيادة المؤقتة يحيي المنظمة، ويقطع الطريق على كل السيناريوهات المطروحة من الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية وأوساط أوروبية، التي هي جزء من الحرب النفسية من خلال إشاعة أن هزيمة المقاومة هو السيناريو الوحيد، وهذا غير صحيح. كما أن ذلك يجعل مصير القطاع شأنًا فلسطينيًا يقرره الفلسطينيون، وهذا سيجد دعمًا عربيًا وإقليميًا ودوليًا لا يستطيع أحد تجاهله.
أعرف أن هذه الأفكار ليست في برنامج القيادة الرسمية الفلسطينية؛ لأنها عاجزة وتخشى المواجهة حتى غير المسلحة، فلا تريد أن تتبناها، فهي تخشى إذا تبنتها أن تنزلق إلى خوض مجابهة مع الحكومة الإسرائيلية التي لن تتردد في معاقبتها، ولكنها ستزيد من المأزق السياسي والعسكري الإسرائيلي الذي وجدت إسرائيل نفسها فيه بعد 7 أكتوبر. فالقضية الفلسطينية عادت إلى الصدارة وأصبحت إمكانية تجاوزها بحلول أمنية واقتصادية وإنسانية أصعب بكثير.
في هذا السياق، إذا صمدت المقاومة ولم تستطع الحكومة الإسرائيلية تحقيق هدفها من الحرب، سواء بالقضاء على "حماس"، أو تصفية بنيتها العسكرية، أو إسقاطها من الحكم وهي صامدة ومرشحة للصمود، تكون حكومة الإنقاذ والقيادة المؤقتة خشبة الخلاص لمختلف الأطراف الفلسطينية من المأزق المفتوح في حال استمراره على الحرب الإقليمية، التي من الممكن أن تقود إلى حرب عالمية في وقت لا يريد أحد حروبًا إقليمية ولا عالمية، فحركة حماس التي من الممكن أن تخرج من الحرب ضعيفة عسكريًا، ولكنها قوية سياسيًا وشعبيًا، يمكن ألا تكون حاضرة مباشرة وبقوة في حكومة الإنقاذ، ولكنها ستساهم في تشكيلها، وستكون جزءًا من مرجعيتها عبر القيادة المؤقتة، وهذه صيغ كانت متداولة سابقًا ويمكن إزالة الغبار عنها ووضعها على طاولة البحث مجددًا.
إعادة تأهيل السلطة
تخطئ القيادة الرسمية إذا تصوّرت أن السلطة الحالية كما هي لها دور في مستقبل غزة، فأولًا الحكومة الإسرائيلية لا توافق على المقاربة الأميركية بهذا الخصوص، التي تتضمن تأهيل السلطة حتى تكون سلطة عميلة، فالمطلوب أن تذهب إلى غزة على ظهر الدبابة الإسرائيلية، بدليل حديث نتنياهو عن بقاء الأمن في القطاع في يد الاحتلال تمامًا، مثلما هو الحال في المناطق المصنفة (ب) و(ج) في الضفة.
المقاومة مستعدة لأشهر من الحرب، وإسرائيل لا تقوى على ذلك
إن ما تقوم به كتائب القسام وبقية فصائل المقاومة من مقاومة باسلة ومن عمليات من مسافة صفر وما ألحقته من خسائر في صفوف القوات المحتلة التي تقدمت على محاور عدة، يدل على أنها استعدت للحرب البرية، وأفادت مصادر المقاومة ونقلت عن يحيى السنوار أن المقاومة مستعدة لحرب تستمر لأشهر عدة، ولعل التقرير الذي قدمه مراسل فوكس نيوز الأميركية، يوم الأحد الماضي، عن مشاهدته لوقوع أكثر من 20 قتيلًا إسرائيليًا في كمين واحد، أثناء تغطيته الحرب بمرافقة جيش الاحتلال، يعطي مصداقية أكبر لرواية المقاومة.
النصر الحاسم ونار الحرب الطويلة
في المقابل، تريد الحكومة الإسرائيلية تحقيق نصر حاسم حتى تستعيد المكانة الإستراتيجية، وهذا لا يتحقق من دون حرب طويلة، وهي لا تقوى على خوضها، على الرغم من ادعائها خلاف ذلك؛ لأن الاكتفاء بصورة انتصار سيضع علامات استفهام كبيرة على بقاء إسرائيل ودورها في المنطقة، لذلك هي بين نارين: نار الحرب السريعة التي تنتهي ببقاء "حماس"، ونار الحرب الطويلة التي لن تتحملها للأسباب الآتية:
أولًا، بسبب الخسائر البشرية الفادحة التي تتكبدها.
ثانيًا، بسبب الخسائر الاقتصادية التي تبلغ مليار ونصف المليار شيكل؛ أي أقل بقليل من نصف مليار دولار يوميًا.
ثالثًا، أن العالم بدءًا بالشعوب العربية وانعكاس غضبها على الأنظمة الحاكمة لن تتحمل حربًا طويلة لأشهر تحصد كل يوم عشرات ومئات الضحايا من المدنيين، من دون أن تتخذ خطوات جدية، مثل سحب سفرائها وطرد السفراء الإسرائيليين خشية من عدم استقرارها.
وكما جاء في تصريح لعاموس جلعاد، وهو من أكبر المنظرين الإستراتيجيين، وكان لفترة طويلة العقل الإستراتيجي لوزارة الحرب الإسرائيلية، الذي حذر من أن هذه الحرب إذا طالت يمكن أن تطيح بمعاهدتي السلام المصرية والأردنية مع إسرائيل.
انتفاضة شعبية عارمة في الغرب داعمة لفلسطين
إن الانتفاضة الشعبية العالمية التي وصلت إلى مختلف أركان المعمورة، وعبرت عن نفسها في تظاهرات شارك فيها مئات الآلاف في واشنطن ولندن وباريس، والعديد من العواصم والمدن الغربية، أدت إلى تغيير في موقف الرأي العام العالمي، ومن ثم إحداث تحول حتى الآن مرشح للزيادة في مواقف العديد من الدول التي كانت تدعم بالكامل الحرب الإسرائيلية.
وتميزت هذه الانتفاضة الشعبية بأنها لا تكتفي بالمطالبة بوقف العدوان والمجازر الوحشية، وإنما تطالب بحل عادل للقضية الفلسطينية، وهناك أنباء عن هبوب عاصفة ضد الموقف الأميركي في وزارة الخارجية الأميركية وعن خلافات داخل الفريق الرئاسي وانقسام يتسع داخل الحزب الديمقراطي، وعن تراجع تأييد العرب والمسلمين للمرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية القادمة من 59% في العام 2020 إلى 17% اليوم، وهذا يقلل فرص فوز بايدن التي هي قليلة أصلًا.
ولتوضيح المأزق الذي تمر به حكومة الطوارئ الإسرائيلية، نشير إلى ما نشرته صحيفة "يديعوت أحرنوت" من وجود جبهة حرب سياسية بين واشنطن وتل أبيب تتمحور حول تركيز واشنطن على هدنة إنسانية وتزويد القطاع بالوقود، وهي من شأنها أن تجبر جيش الاحتلال على تسريع العمليات لإنجاز أكبر قدر ممكن من الأهداف قبل الوصول إلى فرض وقف إطلاق النار من إدارة البيت الأبيض، التي تريد تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وعدم الانجرار إلى حرب طويلة تفتح الطريق للحرب الإقليمية؛ حتى تتمكن من متابعة ملفات أخرى تتعلق بأوكرانيا والصين واستعادة مكانتها في الشرق الأوسط.
نضع في هذا السياق نتائج الاستطلاع الذي أجرته القناة 13؛ إذ طالب 76% من الإسرائيليين نتنياهو بالاستقالة فورًا (وهذا أمر غير مسبوق) أو في نهاية الحرب. ويرى 56% أنهم غير واثقين بقدرته على إدارة القتال بشكل سليم.
كما بيّنت نتائج الاستطلاعات المختلفة أن المقاعد التي سيحصل عليها حزب الليكود وأحزاب الائتلاف الحاكم في حال إجراء الانتخابات لن تبلغ أكثر من 42 مقعدًا؛ أي أقل بنحو 20 مقعدًا من مقاعدها الحالية؛ ما يفسر لماذا يريد نتنياهو إطالة الحرب وتوسيعها على أمل أن يحقق نصرًا يحفظ دوره السياسي، أو يقلل من حسابه بعد أن تسكت المدافع.