الخميس 25، إبريل 2024
10º
منذ سنتين

الشيخ عباس نمر … مخطوطتنا المسافرة في العالم

الشيخ عباس نمر … مخطوطتنا المسافرة في العالم
حجم الخط

شبكة وتر- كتب الراحل الكبير وشيخنا الجليل ومؤرخنا عباس نمر سطوره الأخيرة، حتى سقط القلم من يد، رحل بعد صراع مع المرض، راضياً مرضياً محباً لوطنه عاشقاً لزيتونه وخضرته، جاب بقاع بلادنا وكتب عنها كما الرحالة، وأعاد لنا ذكريات اللاجئين والمهجرين من ديارهم، وصف قراهم وكتب عن عائلاتهم أعيانهم وكبارهم. كنا ننتظر بشغف مقاله الشهري عن القرى المدمرة، في صحيفة القدس، وما تحتويه من معلومات تاريخية دقيقة وقيمة، تنم عن بحثه المستمر. كانت المكتبات بيته، وملجأه، والكتابة وطنه، أثرى المشهد بمقالاته التاريخية عن البلاد، في وقت غرق السياسيون في التناحر. كان يؤرخ لفلسطين، ويكتب شهادات حية عن وقائع وأحداث مرت من هنا، ليعيدنا إلى مجدنا التليد، أتذكر حين كان يتواصل معي من وقت إلى أخر ويستفسر عن معلومات ليضعها في مقاله حول قرانا، كيف كان لا يكتفي بالمعلومة والمراجع بل يبحث عن ما هو شفوي وعن الوثائق غير المنشورة يستنزف وقته وصحته من أجل أن يكتب ويؤرخ بشكل صحيح ويراجع مرات ومرات. التقيته ذات يوم في مكتبة البيرة التي كانت مقراً له عند الأخ أبو الطيب ومكاناً دائماً يستقي منه المراجع وكأنه في حدائق العلم يستنير وينير لنا الدرب كلما ضللنا الطريق. وقبل أن تتدهور صحته لم يغب يوماً عن الفعاليات والمؤتمرات التاريخية مشاركاً وحاضراً ومتفاعلاً فارضاً احترامه لدى النخبة، والمثقفين، والمفكرين، بحضوره البهي العالي، فله مكانة عربية أيضاً حصل خلالها على عضوية اتحاد المؤرخين العرب، عضواً في اتحاد المكتبيين العرب فكان له الدور المهم في الارتقاء الثقافي باسم فلسطين، ومنارة يستدل بها الباحثون العرب بالمعلومات، ومرجع من مراجع فلسطين العتيقة وبئر من العلم لا ينضب، وقد مثلنا خير تمثيل في مؤتمرات الشارقة، ونواكشوط، والقاهرة، ودمشق، وعمان وصنعاء، وحتى فرنسا وألمانيا، وشملت محاضراته، الجامعات والمخيمات، والجمعيات.
كان الشيخ عباس، خطيباً مفوهاً، تشهد له منابر الوطن، في نشر الدعوة والصلاح والخير، وكان رئيس وحدة شؤون القدس في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ومسؤول مديرية التراث الإسلامي في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية لمدة تزيد على عشر سنوات، ومحاضراً دائماً في مؤتمر القدس الذي تعقده جامعة النجاح، مشاركاً في مؤتمرات عدة، بأبحاثه ومقالاته القيمة.
عباس نمر عبد الله عليان، كان نجماً في سمائنا وعلماً من أعلامنا التي حفرت في التاريخ اسمها، بمؤلفاته المتنوعة وأبحاثه، عن المدن والمقدسات، والقرى، والنكبة، ليشكل امتداداً لمؤرخي الثلاثينيات وقد حمل الراية بعدهم، وأقسم أن يكمل مسيرهم. كان على العهد، وأذكر أن أول لقاء بيننا جرى خلال توقيع كتابي تاريخ مخطوطات فلسطين، وقد قدمني آنذاك الراحل سميح حمودة، ولم يتاخر الشيخ عباس وقد احتفيت به، فاستغرب هل تعرفني ؟!، قلت: من منا لا يعرف الشيخ عباس نمر؟! فقد كنت اقرأ له بشكل دائم وأنا في غزة عن منشوراته في المجلات والصحف، وتوطدت علاقتنا أكثر من خلال لقاءاتنا غير الدورية في الفعاليات والمكتبات، ونتواصل مع بعضنا البعض، فاعتبرته الأخ الكبير الذي نستظل به ونحتاجه، ليملأ علينا وحدتنا. كان يكفينا نفسه، كنت ارتاح لمجرد الاطمئنان على صحته، ويدخل في نفسي شعور الراحة لوجوده معنا في هذا العالم الذي يعاني الرجعية، والتضليل، وانشغاله في أمور الدنيا، ولا يكترث لهذا العطاء الكبير، كما تعطي الزيتونة خيرها، وكما تروي السماء أرضها، فكان يروي حكاياتنا وينشغل في حفظها وسردها، كل الكلمات لا تفيه حقه، وهو في دار الحق ونحن في دار الباطل، عند الله الاكرم منا جميعا، الذي لا يضيع حق عنده. رحل شيخنا تاركاً الأثر الطيب في نفوسنا، والخير في أرضه التي ستذكره لحبه لها، ولشعبها الذي حفظ ارث عائلاتها وأنسابها، وسيرّ روادها، وكتب عن تراثهم الشعبي، عن قرانا ومدننا، وكان صوته يصدح، في برنامج من بلدي، على مدار ثلاث سنوات، أسبوعياً يتحدث عن التاريخ والجغرافيا وحتى النباتات. كان يشجع على معرفة فلسطين واكتشافها من خلال المسابقات الرمضانية، ليخلد أسمه ضمن هذه المسيرة الطويلة بعطائه، وبرحيله، طوينا صفحات مؤرخ فلسطيني كتب بماء الذهب، للارض والهوية، واسمه علم من أعلام فلسطي.