تدجين التعليم العربي : من ترويض العقل إلى إلغاء المستقبل

شبكة وتر-
نسيم قبها / الإئتلاف التربوي الفلسطيني/ الحملة العربية للتعليم
قد تكون مأساة التعليم المتكررة في البلاد العربية ، خاصة تلك التي تعاني عدم استقرار مجالها السياسي في تحول التعليم من أداة تحرير العقل وبناء الإنسان إلى آلة ضخمة للتدجين والتطويع، فلم تعد المدرسة فضاءً للتساؤل الحر والاستكشاف الجريء كما يجب ، بل تحولت إلى سجن منهجي يهدف إلى إنتاج نسخ متكررة من الأفراد المطوّعين، الأوفياء للخطاب الرسمي والخائفين من رحابة الفكر المستقل، هذا التدجين لا يحدث عفواً بل هو عملية منهجية تبدأ بمركزية صياغة المناهج التعليمية التي تختار بعناية ما يُقال وما يُسكت عنه، فتُقصى الأفكار النقدية والتاريخ بزواياه المظلمة وتُقدّم المعرفة كحقائق ثابتة غير قابلة للمساءلة أو النقاش، فيصبح دور الطالب مجرد وعاء يستقبل المعلومات دون تمحيص أو تفاعل إبداعي بشكل عام.
تساهم طرائق التدريس التقليدية في تعميق هذه الأزمة، فسيطرة أسلوب التلقين والحفظ الآلي على الفصول الدراسية يقتل روح الاستفسار ويُغيّب مهارات التفكير النقدي والتحليل المنطقي، كما أن نظام التقييم القائم على الامتحانات المعيارية يركز على قياس قدرة الطالب على استرجاع المعلومة لا على فهمها أو تطبيقها أو نقدها، فيتحول النجاح إلى غاية في حد ذاتها منفصلة عن جوهر المعرفة وقيمتها التحريرية، هذا النظام ينتج خريجين ممتثلين بارعين في اجتياز الاختبارات لكنهم فقراء في الإبداع والابتكار ومحدودي الرؤية لقدرتهم على مواجهة تعقيدات الحياة الحقيقية ، ما يعني مدرسة رائعة في التحفيظ فاشلة في التعلم والتعليم.
يتجلى التدجين أيضاً في محاربة أي شكل من أشكال التفكير المختلف أو التساؤل المشروع داخل جدران صفوف المدرسة المتراصة ، فيُوصم الطالب المتمرد بأسئلته المحرجة بالمشاغب أو عديم الانضباط، بينما يُثاب الطالب المطيع الذي يكرر الإجابات الجاهزة دون تردد، هذا الخوف من السؤال والهروب من الحوار النقدي يخلق أجيالاً مسكونة بالخوف من السلطة بكل أشكالها، خائفة من التعبير عن رأيها، عاجزة عن تحمل المسؤولية المجتمعية، يخدم هذا النموذج التربوي المشوه أنظمة مركزية تسعى للحفاظ على الوضع القائم وتخشى التغيير، فهو يضمن بقاء الجماهير سلبية مستهلكة غير قادرة على المطالبة بحقوقها أو تصور بدائل للمستقبل.
إن تدجين التعليم ليس مجرد إخفاق تربوي بل هو جريمة ضد مستقبل الناس ، فهو يسرق من الشباب حلمهم وقدرتهم على البناء الحقيقي ويحولهم إلى أدوات في آلة بيروقراطية متكلسة، فبدلاً من أن تكون المدرسة مشتلاً للفلاسفة والعلماء والمبدعين الذين يدفعون بالشعوب إلى الأمام، أصبحت مصنعاً لموظفين ينفذون التعليمات دون مساءلة، لقد آن الأوان لثورة تربوية تعيد الاعتبار لدور التعليم كفعل تحريري، ثورة تضع الطالب في المركز كفاعل نشط في بناء معرفته، ثورة تشجع السؤال الجريء وتحتفي بالاختلاف وتزرع الثقة في قدرة العقل العربي على الابتكار والمنافسة، فبدون تحرير التعليم من قيود التدجين ستبقى المجتمعات العربية تدور في حلقة مفرغة من التخلف والتبعية، عاجزة عن مواجهة تحديات الحاضر أو صناعة مستقبل يليق بإرثها الحضاري العظيم.