الخميس 02، مايو 2024
18º
منذ 6 سنوات

المسحوق!!

المسحوق!!
حجم الخط
شبكة وتر- عيسى قراقع- رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين       يطالع صحيفة القدس يومياً.. ما أصعب الصفحة الأولى، صفحة حرب حقيقية تكثف في عبارات أو كلمات سوداء، وما تحت العناوين والأخبار دماء وشهداء وتوتر، وتظل الأعصاب مشدودة ومستنفرة، ويوميا ترى الاحتلال بوضوح من على وجه هذه الجريدة.       "المسحوق" يقرأ: إصابات بالرصاص الحي والمعدني واختناقات بالغاز في المسيرات ضد الاستيطان، والاعلان عن بناء 3000 وحدة استيطانية في مستوطنة غيلو و 123 وحدة في مستوطنة بسغات زئيف. يختنق "المسحوق" وهو يبحث عن مكان يمر منه الهواء الى رئتيه دون غبار وصدى صوت جرافات.       يقرأ: حارس اسرائيلي يعمل في بلدية القدس يشطب اسم السيد المسيح الذي كتب على حجر تاريخي في مبنى المدينة، فيتساءل كم مرة يصلبون اليسوع؟ لازالت الاجراس تدق في ساحة الميلاد ، الخوف على المذود والنجمة وعسل التاريخ في خبز البيت والبرهان.       المسحوق يقرأ : وزارة التعليم الاسرائيلية تستدعي مديرة في مدرسة ام الفحم بسبب أغنية دمي فلسطيني، يفور دم "المسحوق"، لا سلام في المدرسة الاسرائيلية، التطرف والعنصرية والحقد على الآخرين ، لا خط اخضر ولا علم فلسطيني، البحر صار لهم والدلعونا صارت لهم، ولا زالوا يلاحقوننا في المناهج والأناشيد.       ويقرأ: والدة الأسير تامر قديح سكان خانيونس تلتقيه لأول مرة منذ 12 عاما، وزوجات وأمهات الأسرى المؤبدات يقلن : ليس بعد الليل الا فجر مجد يتسامى ، يتحسس قيوده ، ينظر من زنزانته المعتمة، لحم بشري على الحيطان، سعال ودم وجوع وشمس تطل من بعيد.       " المسحوق" يقرأ: اسرائيل تعيد حكم المؤبد بحق المسن الأسير يوسف أبو الخير 72 سنة، سكان عكا بعد 34 عاما من اطلاق سراحه عام 1983، ويضيف ان 54 أسيرا آخر اعيد اعتقالهم والاحكام السابقة عليهم، انها دولة قراصنة خطفت المحررين، وشرعت قوانين تعسفية لم تناقشها هيئة الأمم المتحدة ولا برلمانات العالم، المؤبد يتغلغل في الحياة، وما حولنا نفوس صامته أو ميتة.       و يقرأ : المحامي عكة يقول ان شهر ايلول الماضي هو الأسوأ على الاطفال الاسرى ومطالبات بإنقاذ حياة الاسيرين خالد الشاويش وسامي أبو دياك ، وقد رأى الاهبل بأم عينيه حملات الاعتقالات الواسعة للقاصرين، لا أحد منهم إلا ويدان مسبقا، لا أحد منهم إلا ويتعرض للضرب والتعذيب، هي حرب على الطفولة الفلسطينية، اطفال يكبرون بسرعة بين الحديد والحديد، ومرضى يموتون ببطء ، امتلأت أجسامهم بالامراض، معلقين بين الموت والحياة ، لا طبيب ولا نعش ولا دواء.       ويقرأ عن حلول الذكرى أل 37 لرحيل الشاعر عبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى)، يستعيد غضبه الملتهب، وكم نحن بحاجة الى ذلك الغضب وهو يقول:       انشر عن لهب القصيد..     شكوى العبيد الى العبيد..       شكوى يرددها الزمان..       غدا الى أبد الأبيد..       المسحوق يقرأ: تواصل اقتحامات المستوطنين للأقصى وتصاعد الاعتداءات في الضفة، ومستوطنون يقتحمون الأقصى وبرك سليمان ومناطق أثرية في سبسطية وقراوة بني زيد، ومستوطنون يسرقون ثمار الزيتون جنوب نابلس، يرتجف المسحوق انها دولة مستوطنين حاقدين، فالأرض والشجر ودور العبادة مستباحة لهم تحت غطاء جيش الاحتلال، دماء كثيرة، ارض تتوجع، صلاة لا تكتمل.       ويقرأ: الطفل الأسير الجريح هيثم جرادات في وضع صعب ، والأسير معاذ عبد ربه يشتكي من معاناة نقله في البوسطة ، واعتقال خمس اطفال في الخليل، يجلس على الكرسي الحديدي في سيارة البوسطة داخل القفص ، قوات النحشون تنهال عليه ضربا، رحلته من السجن الى المحكمة تستغرق عشر ساعات، لا طعام ولا ماء، يشعر ان الشعب الفلسطيني منذ خمسين عاما محشورا في سيارة بوسطة اسرائيلية تنقله من مكان الى مكان مهانا ومذلولا ، ولم يصل الى أي مكان.       ويقرأ: الاحتلال يستهدف المزارعين ورعاة الأغنام على حدود غزة ، والطائرات بدون طيار تلاحق الفلسطينيين من سبع اتجاهات، وقصف مدفعي اسرائيلي على غزة، وملاحقة الصيادين في بحر القطاع، تذكر ما قاله محمود درويش : الزمن في غزة شيء آخر ، الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة الى الشيخوخة ولكنه يجعلهم رجالا في اول لقاء مع العدو ، انه اسلوب غزة في اعلان جدارتها بالحياة.       المسحوق يقرأ: الشاعر فوزي البكري صوت الفقراء والمهمشين يحذر من تفريغ القدس القديمة وهو يصرخ في الساحات:       ماذا في بيت المقدس       غير الألم وغير الفقر وغير الجوع     ماذا في بيت المقدس       غير الاقصى       بيتا لمساكين الارض المحتلة مرفوع       ويقرأ عن حلول الذكرى 36 لاستشهاد الكاتب والقائد ماجد أبو شرار ، ويفتح قصة الخبز المر،ّ يتابع حكاية العامل الشقي أبو خميس الذي يعمل في منجم فوسفات ليعيل اسرته، يصاب بالسل، يتمنى بحرارة ان لا يموت، لكن المرض بدأ ينتصر ونوبات السعال ملأت القصة ورغيف الخبز ، ولا زال العمال يصطفون طوابير طويلة امام الحواجز الاسرائيلية.       ويقرأ عن الصفقة الكبرى، صفقة السلام والمفاوضات، وقد صادق نتنياهو على بناء 3829 وحدة استيطانية في الضفة تتويجا لهذه الصفقة القادمة، العدوان القادم، المتنمرون الاسرائيليون، والشبيحة المستوطنون يعلنون طقوس السلام العادل، التحكم والسيطرة وتعميق الاحتلال، والاحتفال بالاحتلال والاستيطان ومواصلة القتل، الموت الداخلي هو المطلوب بعد أن مات الشجر وجرف وشوه جسد الارض.       المسحوق يقرأ ويقرأ، لم تنته الصفحة الأولى من جريدة "القدس"، شعر بالارهاق وبالتعب، الأخبار تطلق عليه الرصاص، تعتقله وتقيد يديه، تطرده خارج الدنيا، الجريدة تستفزه، تشعره بالعجز، لن يقرأ المقالات في الصفحات الاخرى، لا يريد أي تحليل أو فلسفة فكرية.       المواطن المسحوق جريح، تسيل منه الدماء، يجري في شورعنا ، يجلس على الرصيف ، يشعر بالبرد والجوع، هناك شيء في داخله يموت ببطء ، هناك جندي اسرائيلي يضع مسدساً على رأسه، يستفيق، يجد نفسه معدوما أو سجينا أو لاجئا مطرودا، يتحدث مع نفسه، تشتعل بين يديه الجريدة.       المسحوق يقف أمام غرفة الانعاش بالمستشفى، أمه في الداخل في غيبوبة، تذكر آخر ما قالته له عن سيرة قوم بني هلال، وسباق العشاق للفوز بسعدى، الجميع قتلوا، وصارت سعدى وحيدة، ما أروع الوحدة الوطنية ، ما أصعب أن تكون يتيما وحيداً أمام هذا الكم من الأخبار الموجعة .