منذ 8 سنوات
الكاتب ياسر حارب يتحدث عن تجربته مع باولو كويلو

حجم الخط
شبكة وتر- كتاباته المغلّفة بإيحاءات فلسفية تأخذك إلى تأملات الباحث عن زهرة تختصر الربيع، وربيع يختصر الفصول. الكاتب الإماراتي ياسر حارب، أحد الكتّاب الذين نجحوا في سبر أغوار النفس البشرية وتأملها بتناقضاتها العصية على الفهم، مرشداً قراءه إلى كيفية تقبل الإخفاق واحتضان الحياة بأمل.
كتب ياسر عن البسطاء متلمساً حاجتهم، أولئك الذين لا يغضبون ولا يفرحون كثيراً، كما يصفهم ولا يحبون الأضواء ولا يشعرون بحاجة إليها، فالضوء الذي بداخلهم المنبعث منهم يكفيهم. رشاقة العبارة، وبساطة الحكمة، وبريق الفكرة، ثلاثة قواسم تشاركها ياسر مع أستاذه وملهمه الأديب البرازيلي باولو كويلو. سمات مكنته من نقل القارئ من مكان إلى آخر عبر نصوصه التشاركية.
"العربية.نت" حاورت الكاتب الإماراتي، وكان الحوار التالي:
قبل أن يثور القارئ على فكرة الشك، فأحب أن أورِدَ له حديث الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: "نحنُ أحق بالشك من إبراهيم إذ قال ربّ أرني كيف تحيي الموتى"، إذن حتى المؤمن مأمور بالشك، لكن الشك المنهجي كما فعل أبي حامد الغزالي وديكارت من بعده.
أما التأمل فإنه من مُتَعِ الحياة وفروضها الوجدانية. فحتى نُدرِكَ الجمال نحتاجُ أن نُمعن النظر، ونترك البصيرة تسرحُ في الموجودات والأفكار. يقول فولتير: "قبل أن تتفلسف ازرع حديقة منزلك".
وأظنه يقصد بأن أساس الفلسفة والنظر العقلي هو قدرتنا على تأمل الجمال حولنا، لأنه يدفعنا للبحث عن الماهية والكينونة التي تقبع خلف الأشياء والصور، فما نعجزُ عن وصفه نسعى دائماً لفهمه، وهُنا تَنْقَدِحُ شرارة الفكر.
من هو "ياسر" الإنسان؟
كُنتُ أنوي أن أكتب "شاب إماراتي" كما تعودتُ، لكن عندما تذكرتُ بأنني على بعُد سنتين من الأربعين ترددتُ قليلاً، وقررتُ كتابة "كاتب إماراتي". لا أدري ماذا أقول عن نفسي، فالحديث عن الذات صعب جداً، فكيف يتحدث المرءُ عما لا يعرف جيداً. نظن بأننا نعرف ذواتنا، ولو كان الأمر بتلك البساطة لما قضى الرهبان البوذيون جُلَّ حياتهم في التأمل بحثاً عن الذات. أنا ما زلت أبحثُ عن ذاتي ككثير من الناس، وخلال رحلة البحث تلك عملتُ في عدة أماكن في حكومة دبي، ودرستُ في الإمارات وخارجها، وانتقلتُ بين أروقة الإدارة، من التسويق إلى الاستراتيجية. كنتُ أبحثُ عن ذاتي، حتى وجدتُ بعضاً منها في الكتابة.أنت من أسرة طموحة ومثابرة، هل تعتبر النجاح وراثة أم هدفاً وتصميماً؟
النّجاح لا يُوَرَّث، بل هو وريث الانضباط والمثابرة. قرأتُ مرة جملة تقول the world is run by those who show up؛ وتعني أن العالم يُديرُه الذين يُصرون على فعل شيء ما، أو بمعنى آخر، المكافحون الذين يبرزون لعملهم كل يوم. فإن كنتَ رسّاماً فإنك سترسم كل يوم، وإن كنت كاتباً فإنك ستكتب كل يوم، وقِس على ذلك باقي الأعمال في الحياة. فالهواة لا يُغيرون العالم، ولا حتى أنفسهم.. إنهم يتسلّون فقط. وقد لا نكون مطالبين بتغيير العالم، فذلك ضرب من الجنون، إلا أن إحدى مُتَعِ الحياة أن نحاول ترك أثر جميل فيها، ولا يتحقق ذلك إلا بفعل ما نُحسِنُ بانضباط، كل يوم.يقال إن أسوأ ما يحدث للإنسان هو عندما لا يعرف نفسه، ما مدى هذا السوء؟ والآثار المترتبة عليه؟
معرفة النفس رحلة طويلة، نقف خلالها على محطات تُعرّفنا على الحياة وتُقرِّبُنا من أنفسنا أكثر. أن تبحث عن نفسك لا يعني أن تتوقف عن كل شيء وتبحث عنه، فلن تجدها إلا في تفاصيل الحياة الصغيرة، في المِحَن والمواقف الصعبة، في اللعب مع الأطفال والضحك على النكت السخيفة، لكن الصادقة في الوقت نفسه. ألا تعرف نفسك ليست المشكلة، بل المأساة عندما تظن بأنك لستَ في حاجة لمعرفتها. حينها يصير الإنسان ساذجاً ورؤيته لا تتعدى حدود ضعفه. فيصبح الفشلُ هاجساً مرعباً في حياته، وينسى أن الفشل محطة على الطريق."نحن من نصنع سمعتنا"، برأيك هل سمعتنا العربية طيبة أم أنها تحتاج لتصحيح؟ وكيف ينتصر العرب على محنتهم؟
قد يثير هذا الرأي حفيظة بعض الناس إلا أنني سأقوله في كل الأحوال. أنا لا أؤمن بفكرة "الوطن العربي" لأنه في الحقيقة ليس وطناً واحداً. دعونا من الماضي، فالإنسان ابنُ زَمَنِه، محكومٌ بشروطِه وبِمفاهيم الحاضر. قد تجمعنا اللغة، ورابطة عاطفية دافئة، لكن الجغرافيا تختلف، وقِيَمُ الناس تختلف، وظروف الحياة واشتراطات التنمية في كل قُطْرٍ عربي تتباين بشكل كبير. ولهذا فإنه عندما يتحدث أحدهم في قناة أجنبية عن العرب ويضعهم في بوتقة واحدة فإنه يظلم شعوباً كثيرة. تماماً مثلما يُقال في المنطقة "الغرب" ونضع ثلاث قارات - على الأقل - في ميزان واحد ونحكم عليهم. لهذا، نحتاج للحديث عن الأوطان منفردة أو ربما عن الأقاليم، إلا إذا نشأ اتحاد عربي أو خليجي في يوم من الأيام. لأن أحلام الليبي تختلف عن طموحات السعودي، وتحديات الإمارات مختلفة تماماً عن تحديات العراقي، فكيف يمكننا أن نصف الدواء نفسه لمرَضَيْن مُختلفين؟ جميل أن نحتفي بعروبتنا وننظر إلى المشتركات بيننا، لكن نحتاج أن نكون واقعيين في التعامل مع اشتراطات الحضارة في كل بلد على حِدة، بما قد يساهم يوماً في خلق نهضة فكرية وإنسانية على مستوى الدول العربية. لكننا سنفشل تماماً إذا ربطنا نجاح شرق العالم العربي بغربه، فكلٌ له ظروفه الخاصة.هل تصلح الثقافة ما أفسدته السياسة؟ ودورها في التواصل الحضاري؟
الثقافة ليست بديلاً للسياسة، ولا يجب أن تقوم بدورها. كما يقول إدوارد سعيد، فإن "الثقافة هي الإنتاج الفكري للشعوب". كنتُ منذ صِغَري مهتماً بالعمل الثقافي لأن والدي كان شغوفاً به وكان يأخذني معه في مشاركاته الثقافية في داخل الإمارات وخارجها. قبل عشر سنوات كنت أعمل في مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم وكنتُ مسؤولاً عن الجانب الثقافي فيها، وقضيتُ وقتاً في ألمانيا وبريطانيا وبعض الدول العربية لتفعيل مشاريع ثقافية مشتركة في النّشر والترجمة وغيرها. لهذا، يمكنني أن أقول بأن الثقافة هي "القَنْطَرة" أو الجسر الوحيد الآمن للعبور بين شعوب العالم. يبدو أن كل شيء آخر بات يؤدي للصراع والدمار. باختصار: السياسة لعبة مصالح، والثقافة عملية تواصل.تغليب العقل.. متى تفضل استخدامه؟
دائماً، حتى في الدين. فلولا العقل لما عرفنا الله تعالى، وتلك أعظم المعارف، أفلا نستأمنُ العقل إذن على معرفة شرعه. هذا ما فهمه ابن رشد وحُرقت كتبه من أجله. من يخاف من استعمال عقله ويظن بأن ذلك سيفسده فعليه أن يعلم بأنه مُغيَّبٌ عن الحياة، يُقاد فيها بسذاجة، وربما لو قرأ مسألة منطقية واحدة فسيعلم بأنه لم يكن يعرف شيئاً قبلها. لا يخشى من العقل إلا اثنان، واحدٌ يظن بأنه يعرف الحقيقة كاملة، وآخر لا يعلم بأنه لا يعلم.المتتبع لمقالاتك يجدها تسير بـ3 اتجاهات، الأسئلة المستفزة، والتأمل، وتصحيح النظرة للدين.. لماذا اخترت هذه المسارات الثلاثة؟
لأنها نابعة من صراع العقل العربي المسلم مع الواقع. فعقولنا تعيش مرحلة "الجهل المُقدّس"، كما يقول الفيلسوف الفرنسي أوليفييه روا. نحن نعتقد بمفاهيم كثيرة، لا شأن لها بالنصوص المقدّسة الشريفة في ديننا الحنيف. مع تراكم الزمن، أُضفيتُ مشروعية التقادُم عليها حتى صارت مُقدّسة. ثم انتقلنا بعد ذلك إلى مرحلة "الجهل المُؤَسَّس"، كما يقول محمد أركون، حيث إننا نؤسس اليوم للجهل في المدارس والمنابر والإعلام. لكنني أؤمن بأن تعزيز الجهل في مجتمعاتنا ليس متعمداً، بل نتيجة لغياب التفكير والشكّ، وانحسار الفلسفة من حياتنا بعد أن مُنِعَت من المدارس وعدنا إلى عصور الظلام التي كان يُقال فيها "من تمنطق فقد تزندق".
أصدرت عدة كتب، وكل كتاب حمل هوية ورسالة، ما الخطوط العريضة التي تبني عليها كل مؤلَف، سواء من ناحية الفكرة أو الطرح؟
أعتقد بأن الكتاب يختار الكاتب لا العكس، وعندما يسعى الكاتب لاختيار كتابه فإنه يفشل. فالكتاب يأتي نتيجة لقراءات كثيرة، ثم تأملات قلبية وعقلية، تتراكم ذرّاتها المعرفية في ذهن الكاتب حتى تنساح روحه على الورق، فمن يكتب يتبرّعُ بشيء من روحه للبشرية، وتلك ذُروة العطاء. وباختصارك قراءاتك وتجاربك ترسم الخطوط العريضة لكتاباتك.شاركت الروائي باولو كويلو في كتاب مشترك، حدثنا عن هذه التجربة؟
باولو معلّمٌ قاسٍ جداً، لا يعرف المجاملات ولا يحب الزّيف. قال لي مرة في بداية التدريب بعد أن قرأ أحد نصوصي: "لقد كتبتَ هذا النص من أجلك أنت لا من أجل القارئ، فلقد كنت تستعرض ثقافتك ومعلوماتك أمامه". كان كلامه صدمة بالنسبة لي، لكنه علّمني كيف أكون صادقاً فيما أكتب، كيف أختصر النّص، وكيف أختار أسهل الكلمات لا أصعبها. فمثلاً بدل أن أكتب "دَلَف إلى البيت" صرتُ أكتب "دخل البيت"، فكم قارئاً في القرن الحادي والعشرين يعرف كلمة معنى دَلَف؟ يقول باولو: "البساطة أصعب ما في الكتابة".عشت عزلة عن المجتمع لمدة 5 سنوات، ماذا أخذت منك وماذا وهبتك؟
أخذت مني النصف الثاني من عقدي الثالث، فعندما أتذكر عشريناتي لا أتذكر غير القراءة والعمل. كنتُ أعود من العمل وأنكبّ على مكتبتي الصغيرة في البيت حتى المساء. وأذكر بأنني كنتُ في يوم ما أقرأ كتاب "الزهير" لباولو، ولكثرة ما أعجبني عكفتُ عليه حتى الصباح، ثم أرسلتُ رسالة لمديري قلتُ له فيها إنني لن أحضر إلى العمل ذلك اليوم، دون أن أخبره عن السبب، فقرر أن يخصم ذلك اليوم من رصيد إجازاتي. كانت الكتب، وما زالت، عشيقتي الأبدية، أكسبتني معارف كثيرة، جعلتني أشعر بأنني أكبر من سني بكثير، وهذه - ربما - إحدى السلبيات، عندما تشعر بتقدم عمرك رغم أنك ما زلت صغيراً. لكنها فتحت لي آفاقاً كثيرة، طهّرتني من الداخل، ومنحتني اتزاناً في تصوري للعالم والآخر. إلا أنني لا أشعر بأنني فقدت الكثير في تلك العزلة، لياقتي ربّما، فلقد زاد وزني (أعترف الآن) لأنني استبدلتُ القراءة بالرياضة، لكنني عدتُ بعد سنوات وانضممتُ إلى صالة رياضية.نجد اليوم تجارة رائجة في المعرفة، خاصة تطوير الذات، فهل أنت مع أم ضد الكتابة بهذا المجال؟
لستُ ضد التجارة بالمعرفة، فغوغل أكبر شركة معرفية في العالم، تجني مليارات الدولارات في العالم لكنها جعلت الحياة مكاناً أجمل للعيش. كذلك ناسا، مؤسسة معرفية عملاقة، بسببها ظهرت مئات الاختراعات التي تحولت إلى شركات تجارية ضخمة. وهناك مدربون من أمثال ستيفن كوفي وتوني روبنز وغيرهم، ساعدوا الناس على اكتشاف أنفسهم والثقة بها. كم شخصاً صار أفضل بسبب هؤلاء المعلمين الأجلاء، الذين تحولوا إلى أغنياء من وراء برامجهم التدريبية؟ لا أرى عيباً في ذلك. لكن المشكلة هي عندما يقرأ أحدهم كتابين أو ثلاثة ثم يبدأ في تقديم دورات "تخصصية" للجمهور، هنا تتحول المعرفة إلا أداة للنصب والاحتيال.