السبت 23، أغسطس 2025
22º
منذ 8 سنوات

"هنا كنّا وهنا سنبقى" دور المسيحي والكنيسة في العالم العربي

حجم الخط
يمرّ العالم العربي اليوم في مرحلة من أدقّ المراحل في تاريخه الحديث، والتي تشابه إلى حد كبير مرحلة تقسيمه إلى دولٍ ودويلات على أيدي الدول اﻻستعمارية الأوروبية في بدايات القرن العشرين من خلال اتفاقيات سايكس بيكو وسان ريمو وبينهما وعد بلفور سيئ الصيت والسمعه. ولعلّ التطورات والأحداث التي تجري على الأرض سوف تترك بصماتها على مستقبل المنطقة ومستقبل شعوبها إلى أجل طويل. ولعل الاقليات الاثنية والدينية هم من دفع الثمن غاليا. وبالرغم من الصعوبة البالغة في الكتابة عن موضوعات واحداث ما زالت تفعل فعلها على الارض، الا انه وجبت المخاطرة في محاولة تسليط الضوء على واقع المسيحيين وما هو المطلوب منهم ومن الكنيسة في هذا الوقت بالتحديد.

وقبل الدخول في الموضوع، علينا ذكر بعض القضايا الهامة والأساسية والتي ستمهّد للإجابة عن السؤال الهام موضوع المقال.

حراك الشعوب العربية حاجة موضوعية:

• أن اﻻنتفاضات العربية والتي سأدعوها في هذا المقال بـ"الحراك"، والتي انطلقت في دول متعددة للمطالبة بالحرية، والكرامة، ورفض الظلم، وتعزيز الحريات الفردية والعامة، هي ضرورة وحاجة موضوعية وليست نتاج رغبة شخصية أو نتيجة مؤامرة أحد على أحد.

• ان انحراف العديد من هذه الحركات عن سلميتها وبوصلتها كان بسبب التدخلات الاجنبية الدولية منها والاقليمية والتي بمجملها لم تتدخل لصالح الشعوب بل لاستمرار الهيمنة وسلب الثروات العربية وحماية اسرائيل.

• أن حقوق الإنسان هي حقوق عالمية، ومن الواجب احترامها، وهي ليست منّة من الحكام والحكومات على شعوبها. كما يمكن القول أن الطريق ﻻحترام حقوق الإنسان العربي وحرية الرأي والمعتقد وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية ما زال طويلاً، وبحاجة لنضالٍ شاقٍ وعسير.

• المجتمعات العربية بشكل عام -مع بعض الاستثناءات- هي مجتمعات قبلية وتجمعات عشائرية أُطْلِقَ عليها لقب دولة. وهذه المجتمعات التي تقوم على القبلية تلعب فيها "الكثرة العددية" سواء كانت عائلية أو دينية أو طائفية وحتى الحزبية دوراً مهماً، وﻻ تحترم الأغلبية فيها الأقلية، وتعتبر الأغلبية أن على الأقلية الذوبان فيها. وعليه، عند نقاش موضوع الأقليات يجب أن تأخذ الثقافة القبلية بعين اﻻعتبار، فما زال مفهوم "انصرْ أخاك" يفرض نفسه على فكرنا وحياتنا.

• ما يميز الواقع العربي سلباً أنه ليست هناك مؤسسات راسخة في المجتمع، تعمل على تنظيم الأوضاع في أوقات الأزمات، وعليه فإن أي تغيير حتى ولو جاء نتاج انتخابات سواء كانت نزيهة أو مزورة يخلق فوضى وإرباكاً وعدم استقرار يستمر طويلاً. وربما لهذا السبب تخشى الشعوب العربية التغيير، وترضى بالظلم وتساهم في التطبيل والتزمير والتسحيج للنظم القائمة لخشيتها من الفوضى التي ترافق وتلي التغيير.

• صعود التيارات التكفيرية والارهابية لم يكن مفاجأة للمحللين حيث ان احد اسباب نجاحها مرده لسياسات الأنظمة والتي اضعفتْ قوى اليسار بشكل كبير، ونتيجة لغمض اعينها عن نشاط الأحزاب والحركات الدينية لتكون بديلا عنها.

حقوق الأقليات الدينية- كعب أخيل وحصان طروادة في آن واحد:

إن حقوق الإنسان في الوطن العربي"وخاصة الدينية منها" كانت وما زالت مُضغةً للاستهلاك الخارجي، ومطيّة لبعض القوى الخارجية الدولية التي تستخدمها كورقة ضغط خدمةً لمصالحها السياسية واﻻقتصادية في المنطقة. لكن هذا ﻻ يجب أن يمنعنا من القول بأن الحريات المدنية للأقليات الدينية والإثنية في الوطن العربي منتهكةً وغير مُحْترَمة، وﻻ ترتقي إلى الحد المطلوب، وأن هناك الكثير الذي يجب عمله في هذا الموضوع سواء كان على صُعُد السياسات أو التطبيق. لكن من الخطأ أن ننظر لوضع الأقليات، خاصة المسيحية منها، في أطر عناوين مثل الحريات الدينية وحقوق الإنسان فقط، وفي معزلٍ عن رؤية الإطار الأوسع للهجمة اﻻستعمارية على الوطن العربي وعلى ثرواته؛ فأغلب الأحيان تستعمل هذه الشعارات لِحَرْف الأنظار عن الهجمة الشاملة التي تمسّ كيان الدولة ككلّ وكافة فئات الشعب، مستغلةً حق الأقليات للتدخل في شؤون هذه الدول وتطويعها لخدمة مصالحها. فمصطلح "الوجود المسيحي المهدّد" لم يظهر ابدا في أدبياتنا، بل ظهر مؤخراً فقط وبعد التدخّل الأجنبي اﻻستعماري في بلادنا. فالخطر الواقع اليوم على مسيحيي فلسطين والعالم العربي هو نتيجة العدوان الصهيوني الأمريكي عليه. فالتهويد والتطهير العرقي لفلسطين ومسيحييها هو من يهدّد الوجود المسيحي، وليس الإسلامي الذي عشنا معاً وسوياً طيلة 14 قرناً. أما عن انتهاك حقوق الإنسان، فيجب النظر إليها كحالة شاملة تعاني منها الجماهير عامة من أنظمة قمعية، والتي بِمُجملها لم تكن لتستمر لولا دعم بعض دول الغرب لها؛ نفس الدول التي ترعى التطهير العرقي للمسلمين والمسيحيين في فلسطين.

وأخيراً أقول أنّ المدّ الإسلامي الحاصل في معظم الدول العربية مختلفٌ في محتواه وأشكاله وأسبابه، ومن الخطأ وضعه في سلة واحدة. فبعضه ترسّخ إبان الحرب الباردة نتيجة رعاية ودعم الغرب والقوى اﻻستعمارية له، واستغلاله لمقاومة الشيوعية والقوى القومية والاشتراكية والعلمانية الصاعدة في ذلك الوقت. والبعض الآخر جاء نتيجة لموقفه المقاوم، ولمعارضته للهجمة اﻻستعمارية على أوطاننا. وعليه يجب دراسة كل نموذج على حدة والحيلولة دون خلط الأمور. أما الأصوات التي تطالب بحماية الأقليات -خاصة المسيحية- من هذا المد الإسلامي والذي يستغلونه كذريعة لتدخلهم في بلادنا، عليهم أن ينظروا بنفس المستوى للمسيحيين الفلسطينيين والمهدّدين باﻻقتلاع وطمس هويتهم نتيجة للاستعمار الصهيوني لفلسطين وذلك كأولوية ضرورية.

دروس من الماضي:

مرّت الكنيسة والمسيحيون في أوقات أقسى وأشد من هذه الفترة، ولم نرفع أصوات البكاء والعويل. هل يمكن لتأثير هذا المرحلة أن يكون أقسى من تهجير أغلبية المسيحيين من فلسطين عام 1948؟ وهل يمكن أن تكون نتائجه أقسى من الحروب الاستعمارية الاوروبية "الصليبية" مثلاً؟ لم تستطع كل الظروف السابقة والإمبراطوريات والحروب والشدائد من الفت في عضد المسيحيين وإنهاء وجودهم، وليس هناك ما ينبئ بأن هذا الوجود سينتهي مستقبلاً. عاشت منطقتنا الحرب الباردة بين الغرب والشرق وكانت في بعض الأحيان حارة وحارة جداً في نتائجها علينا. فقد أصبح عالمنا العربي مسرحاً للصراع والحروب بين القوتين العظميين في حينه، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وفشل التجارب القومية في بعض دول المنطقة، أصبحنا أسرى للمشروع الإمبريالي الأمريكي والصهيوني للمنطقة. وبعدها أصبحنا أسرى ثانيةً لمصالح قوى إقليمية من جهة أو لمصالح أحزاب وحركات إرهابية متطرفة من جهة أخرى، كأن على المواطن العربي أن يختار فقط بين ما هو سيء أو أسوأ، وأصبح حديث الشاعر العربي "كالمستجير من الرمضاء بالنار" ينطبق علينا كلياً.

يجب علينا اليوم أن نعي بأن لدى المسيحين العرب خوفاً مبرراً وهو أن يتكرر ما حدث ويحدث في العراق وسوريا في دولهم؛ فالعنف الطائفي الذي أعقب غزو الولايات المتحدة للعراق وسقوط نظام صدام حسين كان مريعاً ودموياً على العراقيين كافةً بمن فيهم السنة والشيعة، ولكنه كان كارثياً على مسيحييه حيث دفعه هذا لترك البلاد والهجرة. ويتكرر هذا التدخل الخارجي في سوريا الان للابقاء على الهيمنة، وكسر أي حالة تحدي في الشرق، وهذا ينطبق وانْطَبَقَ على المنطقة منذ عهد محمد علي في منتصف القرن19. وآخيرا، إن اندماجنا كمسيحيين في مجتمعاتنا ومع أبناء شعوبنا هو خير حماية لنا، هذا من جهة، ومن جهة ثانية يجب على اخواننا المسلمين ومؤسساتهم ومرجعياتهم الدينية وحركاتهم السياسية أن تأخذ المبادرة في طمأنة الأقليات التي تعيش معها وان تقوم باستنكار واضح لا لبس فيه للحركات الاسلامية التكفيرية الارهابية ولاستهدافها للاقليات.

ماذا ننتظر من الكنيسة في ظل التطورات الجارية:

• هناك حاجة الآن أكثر من أي وقت مضى لمجلس كنائس الشرق الأوسط، مجلس قويّ قادر على تمثيل الكنائس العربية، خاصة وأن الكنيسة في معظم دولنا تعاني بشكل عام من التشتت وعدم الوحدة والتي هي مهمة جداً للدفاع عن الحقوق والحريات الأساسية، ولمواجهة التطرف واﻻنعزال.

• هناك حاجة لرؤيا جديدة، رؤيا تُصاغ من كافة الأطراف المسيحية الفاعلة، يخرج عنها وثيقة جديدة "وقفة حق" كايروس شرق أوسطي، يُؤَكَّد فيها على الإيمان والرجاء والمحبة.

• علينا أن نعمل سوياً كمسيحيين لنكون جزءاً مندمجاً في المجتمع المدني الديموقراطي، وأن نتحرر من العصبيات المذهبية والطائفية واضعين مصلحة وطننا ووحدتنا في المقام الأول.

• أن نطلق حواراً من نوع جديد مع المسلمين ومع مكونات المجتمع الاخرى، حواراً يبتعد عن الشّكليات للوصول إلى الجوهر، هذا النوع الجديد من الحوار مهم لبناء رؤيا جديدة لوطننا ولحياتنا، مبنية على الشراكة والأخوة التي أساسها القانون وليس الهوية والمطالب الجماعية.

وعلى الكنيسة اليوم الالتزام بـ:

• طرح قضايا ومشاكل الناس واحتياجاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية باعتبارها جزءاً من الناس وحياتهم وليست كمراقب أو متفرج.

• نشر الوعي والدفاع عن الحقوق، خاصة حقوق المرأة والأقليات القومية والدينية، والحريات والتعددية السياسية والفكرية والديموقراطية، وعلى الكنيسة أن تبدأ بنفسها أولاً، فعليها أن تتجدد وتتطور لتلامس روح العصر.

• الدفاع عن السيادة الوطنية، والنضال ونشر الوعي والضغط والمناصرة مع كنائس العالم والمؤسسات المسيحية والدولية لإنهاء اﻻحتلال الإسرائيلي لفلسطين، والعمل معهم لإحلال السلام العادل في منطقتنا العربية القائم على الكرامة واﻻحترام.

الخاتمة:

تمرّ منطقتنا العربية بمخاضٍ عسير ﻻ نعرف نتائجه، وعلينا واجب استغلاله بهدف التجدد والبحث عن رؤيا قادرة على المحافظة على وجودنا ليس بانعزالٍ أو بانكماش لدورنا، بل باﻻنخراط في هموم المجتمع ككلّ، وأن نكون في الصفوف الأمامية الداعمة للتوجّهات الديموقراطية وتحريم اﻻقتتال بين أبناء الشعب الواحد بغضّ النظر عن الهوية الطائفية. على الكنيسة اليوم ترجمة رسالتها إلى واقع، وأن تنفض عنها الخوف والوجل من الآخَر، فنحن قبل كل شيء أبناء مخلصون لهذا الوطن، هنا كنّا وهنا سنبقى.